باريس | حين شرعت نادية الفاني في تصوير فيلمها الوثائقي «لا الله، لا سيدي» عن العلمانية في تونس، في آب (أغسطس) الماضي، تحايلت على رقابة الدكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي، لنيل إذن بالتصوير، على أساس أنه وثائقي يتناول «تقاليد رمضان في تونس». لم تكن صاحبة «أولاد لينين»، تتوقّع أن يسقط الطاغية قبل أن يبصر شريطها النور: «كنت قد شرعتُ في المونتاج في باريس، حين اندلعت الثورة.
سافرت تواً إلى تونس، حاملةً كاميرا صغيرة لتصوير جزء جديد من الفيلم أثناء التظاهرات. وخلال الأسابيع الأولى للثورة، كان موضوع العلمانية في صلب المطالب الشعبية التي نادت بتونس علمانية وديموقراطية...». لم يكن أحد يتصوّر أنّ العمل الذي واكب الثورة، وتحمّس لإطاحة الدكتاتور، سيواجه حملة شرسة بعد الثورة، وتهديداً لمخرجته (راجع المقال أدناه). ليست هذه أول معركة تخوضها المخرجة التونسية المشاكسة. لفتت الأنظار منذ أول أعمالها القصيرة. رؤية إخراجية صادمة ومجدّدة، وخطاب جريء يعمل على خلخلة اليقينيات، وكسر المحظورات الاجتماعية والسياسية، بدءاً من المِثلية («من أجل المتعة» ـــــ 1990)، إلى الحرية الجنسية النسائية في مجتمع ذكوري («قدّ قدّ، يا حبّي» ـــــ 1992)، وصولاً إلى تحدي نظام بن علي المتسلّط في Tanitez moi (1993). يومها، انطلق الشريط من سيدي بوسعيد باتجاه قصر الرئاسة في قرطاج المجاورة، راصداً وشم الجدران برسوم غرافيتي ندّدت بالدكتاتورية، واتخذت من «التانيت» (رمز الحضارة القرطاجية) شعاراً للمناداة بالديموقراطية.


Extrait du film "Laïcité, inch'Allah !" de Nadia... by sunnysideofthedoc
بالطبع، لم تتمكن تلك الرحلة من بلوغ جدران القصر الرئاسي، وتوقفت عنوةً عند مبنى «الأكروبوليوم»، لكن عرض الشريط على «كانال بلوس» مثّل قنبلة موقوتة، جعلت شركة الإنتاج Z’yeux noirs movies، التي أسسّتها الفاني عام 1990 تُحرم أيّ دعم حكومي لغاية سقوط بن علي! كل ذلك لم يمنعها من معاودة مشاكسة دكتاتور قرطاج في شريطها القصير الرابع «ما دامت هناك أشرطة تصوير» (1998).
لم ينجح الحصار المالي في تكميم الفاني، بعدما جابت أعمالها مهرجانات العالم، وحازت جوائز عدة. مع ذلك، تأخّرت باكورتها الروائية «البدوي الهاكر» (2003) خمس سنوات. ولم تبصر النور إلا بعد عام على انتقالها القسري إلى المنفى الباريسي. حمل «البدوي الهاكر» (أو الـ hackers، «لصوص» الإنترنت النبلاء) نبوءة مبكرة بأنّ ثورات العالم العربي ستأتي من الإنترنت. رؤيته الإخراجية المبتكرة، المستلهمة من الثقافة الرقمية، خوّلته أن يجوب المهرجانات. بعدها، عادت نادية الفاني إلى السينما الوثائقيّة لتقدّم فيلماً طويلاً بعنوان «أولاد لينين» (2007) تناول جانباً من سيرتها الذاتية من خلال بورتريه جماعي لعدد من أبناء جيلها الذين يتحدّرون ـــــ مثلها ـــــ من عائلات يسارية.
وفي آب (أغسطس) الماضي، تصدّت لعمل وثائقي يدور حول تيمة حساسة ومثيرة للجدل هي «الإلحاد في مجتمع مسلم». كان المشروع الأصلي للفيلم يحمل عنوان «قفوا، أيها المرتدّون». وجرى تصوير الفيلم في رمضان الماضي. يومها، استجوبت الفاني عدداً من التونسيين وسألتهم عن ظاهرة النفاق الاجتماعي التي برزت خلال السنوات الأخيرة في موطن بورقيبة، إذ لم يعد غير المتدينين يجرؤون على المجاهرة بأنهم لا يصومون رغم «علمانية تونس»، التي كان نظام بن علي يتبجح بها لمغازلة القوى الغربية التي كانت تغض الطرف عن نظامه الدكتاتوري.


Interview de la réalisatrice Nadia El Fani 2/2 by rue89
وفي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، كانت الفاني بصدد إنهاء مونتاج الفيلم، وإذا بها تُفاجَأ بتحقق نبوءتها في «البدوي الهاكر» مع انفجار انتفاضة «شباب الفايسبوك». عادت المخرجة إلى بلاد بورقيبة، متأبطةً كاميرا رقمية واكبت تظاهرات شباب الثورة، واستكملت فيلمها عبر طرح إشكالية العلمانية على المتظاهرين التونسيين، ثم في التظاهرات الضخمة التي رُفعت خلالها شعارات تنادي بـ «تونس علمانية وديموقراطية». في خضم تلك الفورة، استجوبت الفاني المتظاهرين التونسيين، بمن فيهم الإسلاميون، حول إشكاليات العلمنة وحرية المعتقد (على موقع «الأخبار» مشهد من الفيلم، يبرز الحوار الهادئ بين المخرجة والمتظاهرين الإسلاميين).
لم يتسم عمل الفاني بأي طابع معاد للدين بل اتخذ شكل مرافعة عقلانية من أجل العلمانية، لا بوصفها دوغما أو إيديولوجيا مضادة للدين ـــــ كما يروّج خصومها ـــــ بل باعتبارها مظلة، تضمن العيش المشترك في إطار التسامح وحرية المعتقد.
لقد لمست الفاني خلال التظاهرات تطلع التونسيين إلى الحفاظ على «الإرث البورقيبي»، المتمثل في قيم العصرنة والعلمانية، ومعارضتهم لأيّ «ردّة» قد تؤسس لنظام شمولي يستبدل بدكتاتورية زين العابدين بن علي العسكرية أخرى دينية. لذا، غيّرت عنوان فيلمها لترجمة ذلك التطلع الشعبي، عبر استلهام مقولة باكونين الشهيرة: «لا إله ولا سيد»! لم تكن «بنت لينين» تتصوّر أنّ العنوان سيحوّله «أبناء الوهابية» من شبان الحركات السلفية التي نبتت كالفطر في تونس بعد الثورة، لاتهامها بالكفر والاعتداء على المقدسات الإسلامية!