يصلح معرض «الولادة من جديد» لتكوين تصوّر شبه شامل عن التشكيل اللبناني المعاصر. استجاب المشاركون الـ49 لفكرة الناشطة جانين معماري (بالتعاون مع عدد من الغاليريات) بتقديم مشروعات حول ثيمة الولادة. إلا أنّ الأعمال المعروضة في «مركز بيروت للمعارض» تتجاوز هذه الفكرة لسببين: الأول أنّ أغلب الاستجابات لم تتقيّد حرفياً بالشرط المطلوب، والثاني أنّ المتلقي سبق له مشاهدة عددٍ من هذه الأعمال في معارض شخصية لأصحابها. هكذا، يرتقي ما نراه إلى معرض جماعي ضخم يضع في عُهدة المتلقي انطباعاتٍ حول هوية التشكيل اللبناني.
داخل هذا التصور، لا نجد مكونات متماسكة لهذه الهوية المفترضة، بل نبرات صغيرة ومتشظية تتجاور من دون تأليف خصوصية راسخة. لا نبحث هنا عن مذاق محلي ضيق في زمن تصدُّع الهويات، بل نشير إلى انفتاح فنانينا على تيارات عالمية متعددة إلى درجة أن التجارب الأحدث تنتمي في معظمها إلى ما يُعرض في الخارج أكثر من اهتمام أصحابها بالحفاظ على صلات وصل مع سابقيهم أو مجايليهم. هناك سعي متعاظم لاستثمار أو تقليد آخر ما تجود به أسواق الفنون العالمية، وتحويل بضاعتها ـــــ بالشطارة أو بالموهبة ـــــ إلى منجزات شخصية. لا تكفّ هذه المؤثرات عن بثّ إشارات قوية تجعلنا نميز بين تجارب مكتفية بالممارسات الفنية التقليدية، وأخرى تسرِّب هواءات طليعية وما بعد حداثية إلى فضاءاتها. هكذا، ينكشف العنوان الموحّد للمعرض، عن تجارب فردية متباعدة. ضمن الملوِّنين، يرسم جميل ملاعب (1948) تجريداً غنائياً لمسقط رأسه في «قرية الأحلام»، ويرسم شوقي شمعون (1942) في ثلاثية «الولادة الثامنة لطائر الفينيق» كتلاً لونية سوداء تتلاطم فوق أشكال بشرية مصغرة. في «أرض ـــــ بحر»، يستغرق هانيبال سروجي (1957) في ثرثرة تجريدية خافتة. تكتفي فاديا حداد برسم الأقنعة بدل الوجوه، وتمدِّد فلافيا قدسي امرأة تخرج منها أوراق وزهور في لوحتها «تفتُّح». في الفوتوغراف، يعرض جيلبير الحاج (1966) وجه امرأة من مجموعته «لماذا نشعر مثل كافكا»، ويقدم روجيه مكرزل (1961) ثلاث وضعيات لـ«راقص البوتو». تصنع كريستينا عيد فوتو ـــــ كولاج من صورة سينما «دوم» الباقية من زمن الحرب، وتصور رانيا مطر (1964) ثلاث مراهقات، كي تثبت أن الانتماءات المسبقة لا تفرّق بينهن في هذه السن. يقدم ألفرد طرزي (1980) مزاجاً مدينياً في طباعة صورة فتاة على أنفاق وأبنية شاهقة، وتمزج ديما حجار (1968) بين الفوتوغراف والرسم والتجهيز في ثلاثية «بائعة الدانتيل». أما لور غريب (1931)، فتقدم تجربة لافتة عبر ثلاث لوحات تشبه مجلات الحائط، وتكتظّ بصور حقيقية لعائلتها وقصاصات لشخصيات وأحداث لبنانية تؤرخ لأحلام الزمن الذهبي التي انتهت إلى كوابيس الحرب. كأن الرسامة والناقدة المخضرمة تعرض أرشيف ذاكرتها وذاكرة جيلها.
الحضور القليل للنحت يتمثل في عملين: «رجل واقف» لسيمون فتال، و«إيكاروس» لميراي حنين. التجهيز حاضر أكثر من النحت: في «تأليف»، يعلق آرا زاد (1962) رحماً مصنوعة من الأسلاك والألياف في ترجمة شبه حرفية لموضوع الولادة، بينما تصفّ ندى صحناوي في عملها To Sweep مكانس كثيرة أمام قصاصات كتبت عليها مفردات: موت، عنصرية، حرب، خوف، ديكتاتورية... مقترحةً أن نكنس كل شيء من أجل ولادة جديدة. في «ملوك وملكات»، تستخدم زينة الخليل (1976) أقمشة ودمى وكتابات إلى جانب صور لوجوه سياسية وفنية معروفة.
عدد المشاركين الكبير، لا يسمح بالمرور المتأنّي على الأعمال كلها، أو منحها ما تستحقه من النقد سلباً أو إيجاباً، لكن ذلك لا يخفي صلات خلاقة تربط بين عدد من التجارب التي تسعى إلى امتلاك نبرات تشكيلية خاصة. يجمع بين هذه التجارب نوع من الجرح النفسي أو المزاج الوجودي المتحصل من الحرب الأهلية وما تلاها. ما صنعته الحرب بالرواية والشعر والسينما يجد تجلياته في التشكيل أيضاً. نرى ذلك في جدارية جان مارك نحاس (1963) المزدحمة بأشكال مينيمالية لكائنات ومسوخ مذعورة.
الهلع هو بطل المربعات الصغيرة المتجاورة بشراسة الحبرين الأسود والأحمر. الهلع يختلط بالسخرية لدى مازن كرباج (1975) الذي يعرض 24 دفتراً ملأها بيومياته المنفذة بتقنيات الشرائط المصورة. الدفاتر مصفوفة أمام شاشة فيديو مقسمة إلى 24 شاشة صغيرة تتوالى عليها 2753 لوحة هي حصيلة عشر سنوات من الرسم. في «قوس قزح الموت» لتغريد دارغوث (1979)، تتوالى تسع جماجم انتزع الهلع ملامحها وأبقى العظام فاغرة. المزاج نفسه مدسوس في «بيروت يا ست الدنيا» لزينا عاصي (1974)، إذ نرى بيروت امرأة حبلى برموز وأشكال تؤرخ لحياة المدينة المهدَّدة. من زاوية أخرى، تُظهر لميا زيادة (1974) جانباً كيتشياً يحاكي إعلانات المدينة عن الغناء والأزياء والمجوهرات. محمد سعيد بعلبكي (1974) يختزل كل ذلك بعرض يدٍ متبقية من نصب الشهداء تحت عنوان «يد واحدة لا تصفق». لعل بعض هذه المعاني متوافر لدى مشاركين آخرين، لكنها تتحول إلى فن شخصي لدى هؤلاء الذين يعيشون تروما الحرب في بلد يتجاهل العلاج.



Rebirth: حتى 24 تموز (يوليو) ــــ «مركز بيروت للمعارض». للاستعلام: 01/980650