«من لم يمت بالسيف مات بغيره/ تعددت الأسباب والموت واحد»، صرخة الشاعر المملوكي ابن نباتة السعدي يتردد صداها في فضاء «غاليري آرت هاوس» الدمشقيّة هذه الأيّام. أينما اتجهنا، تحاصرنا ملامح الموتى في أعمال كميران خليل. وجوه تكبّلها ضمادات. أجساد عارية مكممة، أكفان تخفي تفاصيل الجسد... لكن «أموات» هذا التشكيلي السوري الشاب، الذي يقدّم هنا معرضه الفردي الأول، يقفون عند برزخ الشهقة الأخيرة. يسعون إلى إزاحة أكفانهم، وتحرير أجسادهم من العتمة، كأنهم في حوار أبدي مع الموت. ربما سيخطر في بال الزائر أنّ كميران خليل، ابن الشمال السوري، يوثّق الموت في شوارع البلاد اليوم، أو يستعير ما يصادفه في الواقع، أو عبر الشاشات. ربّما كانت الرؤيا الاستشرافيّة هي التي قادت الفنّان الشاب، لكنه يؤكد أنّ فكرة المعرض داهمته قبل ستة أشهر، ويوضح أنّ «جدلية الموت» كثيمة تشكيلية، ترافقه مذ كان طالباً.
وقد أنجز أكثر من تجربة في هذا السياق، إثر قراءات معمّقة عن فلسفة الموت في الحضارات القديمة، وخصوصاً لدى الفراعنة. كأن هذه المومياوات خرجت للنزهة لفضح أسباب موتها، قبل أن ترتدّ إلى أكفانها مجدداً.
على الجهة المقابلة، تطالعنا وجوه مخيفة ووحشية بأحجام ضخمة، يحيط بها السواد، بعضها مرسوم بالفحم، والبعض الآخر باللون الأصفر. من بين هذه الوجوه المقنّعة، ننتبه إلى وجه إحدى الضحايا. الضحية تحاول نزع الضمادات بكل قوة ما قبل الاحتضار، ربما كي تصرخ بشهادتها على الملأ، أو محاولتها نزع القناع عن جلّاديها. وعلى جدار آخر، تسعى ضحية أخرى إلى فكّ الأربطة التي تكبّل أعضاءها، والنهوض مجدداً لصناعة مصائر مختلفة. في الواقع، لا يمكننا قراءة هذه المتوالية البصرية (20عملاً)، بمعزل عمّا يجري حولنا من انتهاكات صريحة في هذه اللحظة الجحيمية... فملاك الموت يطاول الجميع. يسفح كميران خليل شحنته التعبيرية على سطوح أعماله بكثافة وجرأة ومهارة، في حوارية صريحة بين الأبيض والأسود، أو النور والظل عبر جرعات موزونة تتحكم في الكتلة. وإذا بالسطح يضج بالأسئلة والاحتمالات والدمار، ويستحضر ما يعتمل في داخليات الشخوص، على خلفية معمار كلاسيكي صارم...
يستوحي خليل أسلوبية فناني ما بعد عصر النهضة لجهة الخطوط والأحجام، والكثافة اللونية في تأطير البورتريه... وإن انزلقت بعض هذه الأعمال إلى تقنيات الملصق. الجسد العاري هنا يتوارى خلف بياض الكفن، وتالياً فإنه يستمد حضوره وتأثيره البصري من حجم الحيف والبطش والألم، الذي أحاق به تاريخياً، لكنه في إيقاع آخر سيبزغ كجسد مقاوم.



«جدلية الموت»: حتى الغد ـــــ «غاليري آرت هاوس»، دمشق.: 00963116628112