في معرضه الاستعادي «غزو الآفاق النائية» الذي يستضيفه «مركز بيروت للمعارض»، يثير وجيه نحلة (1932) النقاش مجدداً حول أهمية فنه وخصوصية تجربته الطويلة. الفنان اللبناني الذي ينتمي إلى الجيل الثاني من زمن الرواد، استثمر إمكانات الحرف العربي وجمالياته، وتفنن في صياغاته اللونية ومعماريته التجريدية المستندة إلى اللغة وذاكرتها في مخاطبة الجمهور العربي، والمستندة إلى غرابتها وخصوبتها لدى المتلقي الأجنبي. الخط فتح اللوحة على فن الأرابيسك، والأرابيسك بدا لاحقاً مثل فضاء كامل يمكن أن يستقبل أعمالاً ترمح فيها الأحصنة العربية الأصيلة، وتُعاد فيه الكتابات الزخرفية العربية والإسلامية، ثم تجاور ذلك مع سلسلة من الأعمال التي يضم المعرض بعضها تحت عنوان «أحصنة وراقصون». المعرض يبدأ بلوحات مبكرة من زمن الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهي أعمال تُظهر موهبة نحلة في نقل المنظر الطبيعي وعناصر الواقع إلى اللوحة، فيبدو شغله استئنافاً لتجارب رواد المحترف اللبناني وتأثراً واضحاً بهم.

بعد ذلك تبدأ الأعمال التالية التي وُزِّعت بحسب عناوين عامة على: أحبار، لوحات نافرة، حروفيات، أرابيسك، منحوتات، وأحصنة وراقصين، ثم سلسلة من الأعمال الجديدة المنجزة في السنوات الأخيرة. بالتسلسل الزمني، على الأقل، يبدو وكأن وجيه نحلة انتقل بسرعة من فكرة أن يكون رساماً مصغياً إلى مزاجه وطموحاته، إلى فكرة أن يكون فناناً مشهوراً تتأتى شهرته من تسوياته الفنية السهلة مع سوق الفن، ومن خضوعه أو مسايرته لما يريد المعجبون والمقتنون الذين جاء أغلبهم من مخيلة بسيطة (ومبتذلة أيضاً) تربط الفن بالزينة المتكلِّفة أوالديكور الباذخ. لن نقول شيئاً جديداً بخصوص اللغط والشكوك حول تجربته القائمة على ما هو جاهز وآمن ومضمون الأثر لدى شريحة معينة من الجمهور، وهي شكوك وضعته في مكان فني خاص يمتزج فيه الرسم بالبيزنس، وتجعل مخيلة الفنان نفسه مستجيبة لمنطق السلعة والسوق. الشكوك لم تمنع نحلة من الحصول على شهرة وتقدير في معارض أقامها في فرنسا وأميركا نهاية السبعينيات، وفي معارض لبنانية وعربية أيضاً، ولكن انغماسه في المنطق التسويقي منحه نوعاً من النجومية الفاقعة، وتعزز ذلك بمعارضه التي أقامها في دول الخليج العربي، واشتغاله على تزيين قصور الأمراء والمشايخ، وتصميم لمطارين في السعودية، إضافة إلى عشرات المجسمات والتصاميم النحتية في الساحات المدينية العامة.
المعرض الاستعادي يُعيد إلينا كل ذلك في لحظة واحدة، فنرى كيف يتحلق بعض الزائرين في حفل الافتتاح حول الفنان ويلتقطون الصور معه على خلفية لوحاته كما يفعل معجبو نجوم الغناء اليوم، بينما تبدو أغلب الأعمال المعروضة شبيهة بنجومية صاحبها، فهي غير معرضة لأي تساؤل أو شك لدى معجبيه الذين يتصرفون إزاء اللوحات ببداهة الإعجاب الجاهز والمسبق الصنع. ليس المقصود ازدراء هؤلاء وأذواقهم بالطبع، ولكنه توصيفٌ إجرائي يمكن أن يسري على الأعمال المعروضة التي تدفعنا إلى التمهل أمام بواكير الفنان، قبل أن تبدأ الأعمال التالية بخلق مسافة نابذة تطرد المتلقي الباحث عن طبقات أو تأولات أخرى تتعدى ما يبدو لامعاً أو فاقعاً أو متباهياً على سطوح اللوحات. أغلب أعمال الأرابيسك تبدو مخذولة ومتقادمة أمام مرور الزمن، وبعضها تنبعث منه مذاقات زخرفية وديكورية بدائية. أما الألوان المبهرجة التي رُسمت بها لوحات الخيل والرقص فتخلق نوعاً من الزوغان السلبي، وتُبقي المشاهد على مسافة غير ودية معها. وأخيراً تأتي الأعمال الجديدة التي تبدو مثل خلاصات لأسلوبية وجيه نحلة في توريق المشحات اللونية التي توحي بحركة لولبية أو دائرية أو منحنية لعناصر اللوحة التي تتحول بدورها إلى تجريدية أسلوبية شبه صافية. اللوحات الأخيرة منجزة بقوة التراكم في تجربة نحلة. وبالمقارنة مع بداياته الخافتة والحميمة، لا تُظهر أعماله التالية تأويلات متعددة أو خصوبة داخلية أو تجريباً جدياً. يمكن الحديث مطولاً بشأن موهبة وجيه نحلة وتأثراته الأولى، ولكننا لا نستطيع تجنب اختلاط هذه الموهبة بالهاجس التسويقي. هناك دوماً إصغاء إلى أذواق سائدة، أو ميلٌ إلى تنفيذ أعمال تحت الطلب. وبعض هذه الأعمال موجودة في معرضه الاستعادي، ولا تكاد تبث أي انطباع آخر سوى أنها جاهزة كقطعة زينة أو ديكور، وأن أهميتها بالنسبة إلى مقتنيها هو إمضاء وجيه نحلة في أسفل اللوحة.

«غزو الآفاق النائية: وجيه نحلة»: حتى 31 آب (أغسطس). «مركز بيروت للمعارض»، سوليدير (بيال). للاستعلام: 01/932000