تُصعّب ناديا صفي الدين الرسم على نفسها، أو لنقل إن الرسم ينشأ من مكان صعب ومن هواجس وعرة ومن ممارسات تزدري السهولة والوضوح. الضراوة هي الوصف المناسب لشغل الرسامة اللبنانية المولودة في داكار (1973) والمقيمة بين بيروت وبرلين. الضراوة تسري على بناء اللوحة وألوانها وكمية اللون المستخدمة فيها والحِدّيّة التي تُرشق بها الألوان على اللوحة.

هناك سخاء لوني وغزارة غريزية في جعله يترك تلطيخات ثخينة والتواءات ومساحات ناتئة ومنحدرات مينيمالية على سطح اللوحة التي تتحول إلى تضاريس لونية متراكمة بطريقة فوضوية وغير مبالية بما ستؤول إليه اللوحة في شكلها النهائي، وبما ستبثه من انطباعات أمام مشاهديها. كأن الرسم هو عملية مستمرة لإفراغ شحنات غضب داخلي وفورانات مزاج تُستبعد فيه أي رخاوة أو رقّة لونية لصالح نوع من الفظاظة التي تأمل الرسامة تحويلها إلى أسلوب ومزاج شخصي. المزاج نفسه يبدو محكوماً بنبرة تصاعدية يشبه تصاعد الموسيقى وجيشانها في لحظة أوركسترالية عالية. الموسيقى على أي حال ليست شيئاً خارجياً في تجربة صفي الدين كعازفة بيانو ومستمعة شغوفة بالأعمال الموسيقية الكلاسيكية. تقول إن باخ غالباً ما يرافقها أثناء الرسم، ويتدخل في صياغة مزاجها وخياراتها المتتالية والمتغيرة أمام قماشة اللوحة.
معرضها الجديد «مرثية» في «غاليري أجيال»، لا يختلف كثيراً عن معرضيها السابقين «Badroom» (2011» و«زمن» (2013) في الغاليري ذاتها. الكثافة اللونية لا تزال تواجهنا أولاً في إشهار الفنانة لشخوصها أو لبورتريهاتها الذاتية.
التشخيص هو أساس لوحاتها التي اكتفت فيها أولاً برسم الوجوه فقط، ثم اتسعت اللوحات للجسد كله أو لأجزاء كثيرة منه، ولكن الوجوه والأجساد أو الملامح مشروطة بحضور غامض وممحوّ وغارق في لطخات ومشحات لونية عنيفة وسميكة تكاد تُخفيه التشخيص كله، ولا تُبقي سوى آثار أو بقايا من الشخوص أو الوجوه التي لن نتعرف إليها أبداً، ولعل الرسامة لا تطالبنا بذلك أصلاً، ولعلها هي نفسها غير معنية بالتعرف إليهم. كأن البورتريه يتحول إلى حجّة للتنكيل بالوجه والتعابير، ومحاولة نبش الجروح والندوب الداخلية لشخص اللوحة. فكرة البورتريه نفسها تتراجع قليلاً رغم أهميتها أمام الفظاظة التعبيرية التي تتعامل بها الرسامة مع لوحتها ومع الموديل أو الوجه الذي ترسمه.
شخوص اللوحات هم خلاصة حمّى لونية تتألف منها وليمةً من اللطخات العريضة والعنيفة. إنهم «ضحية» حركة اللون وعواصفه الموضوعية الحادة والشرسة التي تُعمي المتلقي وتطالبه بالانتباه إلى المزاج العام للوحات المعرض وليس إلى تفاصيل كل لوحة. ما نراه هو بورتريهات بعضها ذات وجوه أو ملامح واضحة إلى حد ما، وبعضها منكَّل به بتشطيبات لونية تشوش عملية التعرف إليها.
كأن الرسامة ترسم ما تريده وتطرد ما ما يتألف أمامها أو تخفي أجزاءً منه، بينما الإخفاء هو رسمٌ أيضاً من خلال الطبقات التي تتراكم على الأشكال البشرية وعلى تفاصيل حضورها في اللوحة. وهذه الطبقات ليست ممارسة مجانية أو لا غرضية، إذْ تنشأ منها أحياناً تلاطمات لونية تمكن إحالتها على تجريد كيفي يحضر كجزءٍ مكمل للبورتريهات، حيث يختلط هذا التجريد مع المذاق التعبيري الحاد لشغل ناديا صفي الدين. الانطباعات الأهم التي تبثها لوحات المعرض هي الحس التعبيري الهائل فيها. هناك شيء من عوالم أوسكار كوكوشكا ولطخاته العريضة والسخية، وشيءٌ من قسوة أيغون شيلي المنظّفة من وضعياتها الأنثوية، وشيء من بذخ فيلاسكيز اللوني، وأشياء مختلفة من تأثيرات التعبيرية الألمانية وطبعاتها المعاصرة لدى رسامين شبان ينتمون إلى هويات محلية مختلفة. شغل ناديا صفي الدين موجود في قلب هذه المعاصرة التي تتشارك فيها مع بعض الفنانين والرسامين اللبنانيين من أجيال ما بعد الحرب الذين حاولوا مقاربة موضوعات العنف والرضّات النفسية والتحلل الأخلاقي والانقسامات السياسية والسوسيولوجية من خلال ممارسات تستثمر التجهيز والبوب آرت وفنون الفيديو والكولاج والكوميكس وغيرها. لوحات ناديا صفي الدين موجودة في هذه المنطقة المختلطة والضارية التي تُترجم فيها الطموحات الذاتية بممارسات تعبيرية متعددة، المذاق المعاصر الذي نجده لدى أقرانها موجود في أعمالها، ولكن هذا المذاق لا يزال منتمياً إلى «فن اللوحة».


«ناديا صفي الدين: مرثيّة»: حتى 22 آب (أغسطس) الحالي ــ «غاليري أجيال» (الحمرا- بيروت). للاستعلام: 01/345213