العود، الطبلة، القانون. تلك هي، عموماً، الآلات الموسيقية التي اعتادت أُذن الجمهور الشرقي عزفها المنفرد. الكمان لم يحظَ بالمكانة التي يستحقّها إلا نادراً. تلك الآلة الأساسية في الموسيقى الغربيّة الكلاسيكية والمعاصرة، تختزن أيضاً نفس الشرق وأحزانه، شرط أن تحظى بمن يخرج منها ذلك النفس، كما فعل الموسيقي الفلسطيني جهاد عقل الذي أعطى هذه الآلة دور البطولة المطلقة...
تعود قصة الولد مع الكمان إلى أيام الطفولة الأولى، حين كان الوالد أحمد سعيد عقل، المبتلي بدوره بعشق تلك الآلة الصعبة، يخبئ فيها لابنه ألواح الشوكولا حتى يدفعه إلى حبّها. لم ينتظر الوالد كثيراً. ما إن بلغ جهاد سنواته الخمس عام 1973 حتى بدأ بتلقينه أصول العزف بصورة جدية.
جدية إلى درجة أن الولد نفر منها في مرحلة ما. فقد كان يخضع بصرامة وانضباط لساعات طويلة من الدروس، بينما يلهو أقرانه في الخارج. حتى ارتياد «مدرسة الجليل» التابعة لهيئة الأونروا لم يدم طويلاً، تركها المراهق وهو على أعتاب البكالوريا بهدف التفرغ لدراسة الموسيقى في المنزل، على يد الوالد.
ذكريات جهاد عن تلك المرحلة تختصرها بضع كلمات «حرب، دمار، وموسيقى» كما يقول. عام 1982، بفضل توجيه الوالد ورعايته، وتشجيع رئيس القسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية حينذاك، المؤلف الموسيقي الراحل توفيق الباشا، وجد جهاد طريقه إلى الإذاعة. هناك «قابلت الكبار مباشرة». بعدما اجتاز الامتحان أمام لجنة ضمت الباشا والمايسترو سليم سحاب وآخرين، بدأ يشارك يومياً في تسجيل أغنيات العمالقة مثل فيروز ووديع الصافي والصبوحة ونجاح سلام وغيرهم. «إنّها من أهم المحطات في حياتي، تأسست فيها روحياً وإنسانياً وفنياً».
في تلك المرحلة، بدأ جهاد عقل يعزف النوتات الشرقية، بعدما كان والده قد حصره في حدائق الكلاسيكية الغربية، من باخ إلى فيفالدي، حتى يتمكّن من تقنيات العزف تماماً. أول لحنين شرقيين عزفهما كانا من أعمال الموسيقار محمد عبد الوهاب، «ليلة حب» و«دارت الأيام». في تلك الفترة أيضاً، بدأ يذوق مرارة المعارك التي ينبغي له خوضها ليثبت نفسه كفلسطيني، في بلد لم يُجمع أبناؤه يوماً على موقف موحّد، إلا العنصريّة تجاه الفلسطينيين. هكذا، دخل الساحة الفنية في ظل القيود التي تعيق تحركاته كلاجئ ممنوع من السفر. «والدي لم يورثني هوية، لكنه أورثني الكمان». على تلك الآلة، سيسقط الشاب شعوره بالظلم. وستكون بمثابة سلاح. يتحدث عنها جهاد كأنها مطيّته في رحلته لغزو العالم، بطاقته لإثبات النفس، نكاية بالجميع، ومتجاوزاً جميع العقبات، وما أكثرها!
ذات يوم، قام جهاد برحلة مرافقاً أحد الفنانين اللبنانيين إلى أبيدجان... لكنّه لم يعد. كان ذلك عام 1986 فضّل أن يبقى هناك، يعزف في المطاعم والحانات، بدلاً من مواجهة حواجز القتل على الهوية التي حاصرته، رغم أنه لا يملك هوية... بعد أربع سنوات عاد إلى لبنان. كان قد عمل عازفاً في فرق عدة، ثم قائداً لفرق رافقت أبرز الفنانين اللبنانيين والعرب. لم يكن مشروعه الموسيقي الخاص قد ظهر بعد، لكن إرهاصاته بدأت، انطلاقاً من أسئلة مبدئية راح الفنان يطرحها على نفسه: لماذا يتمّ التركيز على المطرب وحده، لا على الآلة الموسيقيّة؟ لماذا تكاد آلة الكمان تغيب تماماً عن اهتمامات الجمهور الشرقي؟
في عام 1994، اتخذ عازف الكمان والموسيقي قراره بالاستقلال. وسط استغراب محيطه الفني للفكرة، تنازل جهاد عن العمل ضمن فرق على المسرح مكتفياً بالتسجيل في الاستديو، وقدم مشروعه من خلال المشاركة في وصلات منفردة (سولو) في حلقات عدة من برنامج «باب الحظ» الذي كان الراحل رياض شرارة يقدّمه على شاشة LBC. «شعرت أن من واجبي أن أعرّف الجمهور اللبناني والعربي أكثر إلى قدرات الكمان اللانهائية وإمكانات النغمة في أن تحتل البطولة المطلقة والحصرية على المسرح، عوضاً عن صوت المطرب». بالنسبة إلى جهاد، إحدى أهم الإمكانيات التي يتحدث عنها تتعلق بتآلف تلك الآلة مع النغمات الغربية والشرقية في آن.
مشروعه الفني ارتكز على تلك المعادلة. في ألبومه الأول، استعاد «عاشق الكمان» (1993) الألحان الكلاسيكية من المكتبة الموسيقية العربية، ومنح فيها البطولة لآلة الكمان، تماماً كما فعل زميله الموسيقي المصري «عاشق الساكس» سمير سرور. هناك أمر آخر قام به عقل في ذلك الألبوم وفي أسطواناته اللاحقة «اسمعوني» (1995)، «كمنجة» (1996)، «شيراز» (2008): لقد أدخل نوتات غربية على اللحن الشرقي، كما ولّف بين ألحان غربية وأخرى شرقية. معادلة تعرّضت لبعض النقد من الغيارى على موهبته والمؤمنين بمهارته في العزف. يومها، رأوا أن في ذلك تبسيطاً للموسيقى بهدف ترويجها تجارياً، وجعلها مستساغةً من قبل الجمهور، وتلك تضحية جسيمة. «من الطبيعي ألا يكون هناك إجماع على أسلوبي، ولا على أسلوب أيٍ كان» يقول عقل الذي يستدرك أن تجربته أسهمت في أن يكتشف الجمهور العربي آلة الكمان أكثر فأكثر.
ذلك الرهان الذي أخذه جهاد على عاتقه، بدا ممكناً منذ عام 1997. يومها، دعاه توفيق الباشا مجدداً الى المشاركة في «مهرجان الموسيقى العربية» في القاهرة. بعد معاناة مريرة للحصول على تأشيرة الدخول، شارك هناك في مباراة للعزف على الكمان، أقيمت على هامش المهرجان، نال فيها المرتبة الثالثة. لشدة حزنه وغضبه من الظلم اللاحق به جراء الترتيب المتأخر الذي منحته إياه اللجنة، في مقابل مرشحَين لم يكونا أكثر موهبة منه برأيه، أصرّ على العزف وحيداً على المسرح من دون فرقة. تحت قبّة دار الأوبرا، فعلت الآلة الشجية فعلها في نقل مشاعر العازف المتأججة. يومها «كان الجمهور هو من أعطاني حقي»، وفتح المهرجان ودار الأوبرا المصرية بابهما واسعاً للعازف. بعدها، توالت مشاركات عقل في مهرجانات موسيقية عربية مهمة، مثل مهرجان «المدينة» في تونس، و«أغافي» في سوريا، و«موازين» في المغرب...
إلى جانب تلك المشاركات، أحيا جهاد، ولا يزال، حفلات يعود ريعها للأعمال الخيرية... ويرعاها سياسيون لبنانيون وعرب. بعد إحدى تلك المشاركات عام 2001، منحه الملك عبد الله وزوجته الملكة رانيا الجنسية الأردنية. نجح العازف الذي لا يزال يقيم في لبنان في تثبيت اسمه ومشروعه وآلته في العالم العربي.
إلا أن حلمه لا يزال أوسع. «يهمني أن يتعرّف الغرب أيضاً إلى تقنية التوليف الموسيقي التي أمارسها، ودورها في تقريب الحضارتين الشرقية والغربية. هذا هو مشروعي للسنوات المقبلة».



5 تواريخ

1968
الولادة في بيروت

1982
التحق بالإذاعة اللبنانية

1993
أصدر ألبومه الأول
«عاشق الكمان»، تبعته ألبومات «اسمعوني» (1995)، «كمنجة» (1996)، «شيراز» (2008)

1997
المشاركة الأولى له
في «مهرجان الموسيقى العربية»
في دار الأوبرا المصرية

2011
صوّر فيديو كليب لمقطوعة
«violin dance» الموسيقية الفارسية،
من إنتاجه وإخراج وليد ناصيف، الذي يُبثّ قريباً. ويسجّل حالياً ألبوماً جديداً.