منذ دواوينه الأولى، لم يكف عقل العويط (1952) عن مساءلة الوجود ونبش صناديق الغيب، لتصير قصيدة هذا الشاعر اللبناني المنغمس في الروحانية، ممارسةً لغويةً تنافس الله على خلق العالم برؤية شعرية ووجودية مختلفة. القصيدة العويطية بقيت تحافظ على تجريدها وبحثها المحموم عن المطلق. حتى في ديوانه «إنجيل شخصي» الذي صدر عام 2008 وعُدّ الأقرب إلى الواقع ومادياته، جرّد العويط هذه الماديات، وجعل المحسوس والملموس فيها يدور في فلك الرؤى الكلية والتصورات الكبرى. صاحب «سراح القتيل» بعث «رسالة إلى الله» عام 2003 يعاتبه فيها على عدم تدخله لتخفيف ألم البشرية، على خلفية الاجتياح الأميركي لبغداد. في معظم اختباراته وتجاربه الكتابية، سعى إلى رؤية خاصة للأشياء والعالم، تحاول إخراج الذات من حيرتها الفلسفية، عبر زيادة جُرعة الشك في كل ما هو يقيني، ومستقر، من بديهيات العالم.
كتابه الأخير «وثيقة ولادة» (دار الساقي، بيروت) يُعد بلورة لهذا الهاجس الذي لاحق العويط طوال تجربته. الذات تعيد تعريف نفسها من خلال فعل الولادة الذي أراده الشاعر فعلاً كتابياً أكثر منه بيولوجياً، بحيث تخرج الصور والمجازات والاستعارات من رحم اللغة وأسئلة العقل بتدفق وانسيابية، من دون أن تكون وظيفتها وضع سيرة شخصية للشاعر تكتظ بالوقائع والأحداث والقصص. بل إنّ صاحب «قراءة الظلام» أراد شعرنة هذه السيرة والتلميح إلى مجرياتها برؤية فنية مميزة.
يقول: «سيلٌ من الحروف ينهمر أمامي، وأنا لا أرى سوى خوفي من ترتيب الأسماء والتسميات في سيرة تشبه الرواية. فأنا أولد الآن بالكلمات، وأتمكن من كتابتها، فكيف لا أروي وثيقة ولادتي بها؟ مأزق هي ولادتي الثانية هذه لأنها تتمرّد بالكلمات على الأولى». النص لا يكترث بالحياة معطىً زمنياً ومادياً، ثمة ولادة ثانية تحدث في المخيلة تتكئ على مرجعيات هذه الحياة من سيرة وذاكرة ومطارح وأمكنة أثيرة.
لا يغادر العويط لحظةً تلك الولادة، بل يعيش في داخلها، ويمدّدها على جميع محطات حياته، ليستنطق هذه الحياة في سرد متماسك يمتد على 320 صفحة. هنا، يمتزج الذاتي بالرؤيوي، والغامض بالمتخيل، والواقعي بالميتافيزيقي. يجد القارئ نفسه أمام وليمة دسمة من اللغة والأفكار والرؤى والتأملات، التي تصوغ نفسها على إيقاع لحظة الولادة وما تخلّفه هذه اللحظة من ولادات أخرى تعيد تعريف الأشياء والحالات التي يعيش الشاعر مخاضاتها ويتأمل في تجلياتها.
الصرخة لا تخرج من الشاعر كالصرخات الأخرى: «ليست صرخة هرب من رحم، إنما للتذكير بخدعة الشرط الوجودي. أنا لا أصرخ لكنّ شيئاً يشبه الصرخة يأخذ وجهي إلى مقتنيات الألم». وفي مقطع آخر، يذكّر بأن «الرعشة لا تلمس، إنما تعاش وتدرك بالتباس العقل وغوى الشعور. حيث الإناء يسيل في ذاته، وقد تجوهرت. حيث الروح هو الإناء، و قد صار اجتراحاً».
رغم انهماكه بذاته الوجودية وتحولات هذه الذات شعراً وكتابة، لا يطغى صاحب «مقام السروة» على النص بوصفه فرداً يرغب في سرد سيرته. السيرة عنده مادة أولية لاستخراج الشعر، والنظر إلى العالم من خلاله. ثمة تشابه من جهة الثيمات بين ما أنجزه الشاعر في ديوانه «لم أدعُ أحداً» (1994) وكتابه الجديد. لكن الأنا في هذا الكتاب تخفت ليرتفع صوت الذات، بما تعنيه من شمول في الرؤية، وقدرة على فحص العالم بمجهر أكثر اتساعاً. «أمامي حياة تعيشني بالخداع، وليس عندي قوة لأوقف خديعتها. واضحة هي الأشياء أمامي. واضحة الأشياء ورائي. وأنا أرى كل شيء. تباً للنسل البشري. يزعجني أن لا أحد يعرف أني أعرف سرّ هذا النسل وخديعته المفجعة».
وقد يبرر ذلك استخدام الشاعر تقنية نص لا يتوقف عن الجريان، شعرياً وفلسفياً. نظرة الذات إلى ما حولها، والتأمل بعناصر الوجود، يستلزمان نصاً متفلّتاً من الضوابط الشكلانية، تُترك له حرية التسلل إلى الأطراف، وفك الأسرار، ونبش الزوايا المهملة. هناك الكثير من القصائد داخل نص العويط يمكن بسهولة تقطيعها فنياً، وجمعها في دواوين عدّة. لكن الشاعر أراد أن يحافظ على كلية نصه، مستخدماً التكثيف، ليس في تركيب الشكل أو البناء العام، بل في الجمل والعبارات. نقرأ في مقاطع مختلفة: «مثلما يكبر نبع في نعاس الماء»، و«عيناي تبثّان مياهاً في المشهد لمنع النظرات من الفرار»، و«كيف لمسمار أن يتوجع، إذا لم يكن ثمة مسيح؟».
نص عقل العويط الذي هو فعلاً «وثيقة ولادة»، يتوجّه إلى قارئ متيقظ ينتبه إلى رنين كل كلمة، وإيقاع كل جملة، وما يتركانه من أثر على المعنى. الشاعر يحفر داخل اللغة ليستخلص حياته في نص متواتر، يتواطأ فيه، فعل الولادة مع وقائع الحياة، ليستنطق كل منهما الآخر. الحياة تحكي عن الولادة بتناسل مستمر من المعاني والصور، والولادة تحكي عن الحياة بشعرنة الأحداث والتفاصيل والوقائع.