تعليمة حفظتها عن ظهر قلب، وكنت أنفّذها في كل مرة كنت احتاج فيها إلى رأي متجرد لكن موثوق، والى توجيه قاس لكن صحيح، والى مساعدة سريعة لكن كبيرة. وهو الكريم، العفيف، الصريح، اللطيف، الجبار، الرقيق، الناقد المهذب، لم يكن يبخل ولا يتأخر ولا يعتذر..لطالما أعطى إلى حد السخاء، ولطالما أبى أن يأخذ.. كانت كلمة شكراً تحرجه، وكلمة ساعدني تفرحه..

كان يبادر إلى معرفة الآخر، من دون أن يقصد أنه سيصبح شخصاً لا بد منه في عالمك.. هكذا كان سهيل في عالمي، المهني والشخصي على حد سواء. عرفني أكثر مما سمح لي بأن أعرفه.. واهتمّ بي إلى درجة لم يترك لي مجالاً لأن أسأله كيف يمكنني أن أهتم به.. وتقبلني كما أنا، تاركاً لي المجال واسعاً لأن أختلف معه وأنتقده وأعبّر له عن غضبي ومزاجي وإرهاصاتي وإخفاقاتي.. وعندما كنت أسأله «هل أغضبتك» كانت ابتسامته الطفولية تسبق إجابته الجاهزة: «لا وقت لدي للزعل».
لا.. لم يكن لدى سهيل وقت للزعل.. فكل وقته كان يخصصه للقراءة والبحث والتحليل والبحث عن المعرفة.. تلك المعرفة التي كان يُشرك بها البعيد قبل القريب، ويقدمها مجانية على طبق من المحبة والكرم والأخوة والشفافية..
فتارة كان يبادر إلى قص مقالة أو خبرية أو معلومة من إحدى الصحف ـــــ التي لم تكن ولا واحدة منها تسلم من بين يديه ـــــ ثم يضع تلك القصاصة على طاولة زميل كان يقدر أنها لا بد ستساعده، ولم يكن يوماً يسأل هذا الزميل، أو ذاك عما إذا كان قد قرأ تلك القصاصة أم لا.
وتارة كان يختار كتاباً من بين مجموعة كتبه الضخمة، ليفاجئك بأنه كان يفكر بك وبالموضوع الذي يشغلك، ثم ينصحك بقراءته بعد أن يكون قد تكرم عليك بشرح محتوياته وكيفية قراءته واستنتاج المعلومات منه.
لم يقل يوماً «لا» لأي نقاش. ولم ينزعج لحظة من أي سؤال.. لم أسمعه يوماً يقول «تعبان»، أو «زهقان»، أو «معترض».. علمني كيف يكون العمل مقدساً، وكيف تكون الكتابة مسألة أخلاق ورسالة، بقدر ما كانت معرفة واطلاعاً وقدرة على التحليل.
«ادخلي في الموضوع مباشرة»!، كانت النصيحة المكررة والثابتة لي، «ابحثي عن المعلومة.. ولا تبخلي على القارئ»!.. «قولي رأيك واتركي الآخر يفعل ذلك بحرية»!.. «اختلفي مع الآخر قدر ما تشائين ولا تخالفي مبادئك»!..
«تقبلي الظلم إذا كان ذلك يجنبك أن تكوني ظالمة..»!
دروس لا حصر لها ولا عدد.. كنت أتلقفها من دون أن أشعر ولا لحظة بأنني تلميذة.. فسهيل الكبير كان يعامل الآخر بندية ايجابية، ولم يكن لمنطق الفوقية أي وجود في قاموس علاقاته.. كان يسمع أكثر مما يتكلم.. ويتفاعل أكثر مما يتأثر.. ويسخو بتوريد ما تعلمه عن الصحافة وعلمته إياه المهنة ومقتضياتها من دون أن يتوقف عن الجدل والسؤال والمبادرة.. تتناقش معه فيدخلك في آفاق المنطق والحقيقة والأدلة الثابتة والمثبتة... وعندما تصل معه إلى نقطة اللاعودة، يحل الأمور بكلمة رقيقة مهدئة ولطيفة: «بسيطة»..
«اقرئي سهيل»! الدرس الأول لي، والنصيحة المشتركة لكل زميل كان يحرص على معرفة ماذا في الوضع المحلي اللبناني.. «اسألي سهيل».. ما إذا كان هذا المصدر مناسباً لهذا الموضوع أم لا! استشيري سهيل ..ما إذا كان يجب أن نتحدث في هذا وذاك.. فسهيل كان «المدرسة» والبيت الذي كنت أفكر فيه بصوت عال، والزميل الذي ينتقدني ليصحح لي ويعلمني، والصديق الذي كان يزعل علي، ولم يزعل مني يوماً..
«أنا حزين»، قال لي يوم أخبرته أنني تركت دراسة الهندسة واخترت العمل الصحافي.. كان هذا قبل أكثر من 18 سنة، لكنه منذ تلك اللحظة، وهو يشد على يدي التي أحمل بها قلمي، ويساعدني على توجيه أفكاري.. فهو كان يتمنى للجميع الأفضل، يتفاعل مع القضايا الشخصية مثلما يتفاعل مع القضايا المصيرية.. كان مثال الانسجام مع الذات.. لم يؤمن بشيء لا يرضى به لأخيه.. كان حراً في فكره وآرائه، وما كان ليجرؤ لحظة أن يتعدى على حقوق الآخر، أو يتطفل على خصوصيات أحد..
كان وجوده مثل النسمة الكبيرة: تملأ عالمك من دون أن تؤذيه، تغدق عليك الايجابيات من دون أن تكلفك عناء رد الواجب.. تلجأ إليه وأنت على ثقة بأنه سيكون إلى جانبك.. ترمي عنده كل المشاكل المستعصية فتصبح بسحره الباهر بسيطة.. وتصغر أنت معها أمام هذا الكبير الذي طالما تجبّر على لطمات الحياة... هذه الحياة التي بقدر ما كانت قاسية معه، كان يقابل تحدياتها بهدوء وكبرياء وعنفوان ولطف وتهذيب.. وكرم.
أستاذي، وزميلي، وصديقي وعزيزي: اسمح لي أن أختلف معك للمرة الأخيرة، لأقول لك إن هذه المرة بالتحديد «مش بسيطة».. فراقك أصعب من أن نتقبله هكذا.. وجاء مبكراً أكثر مما يتحمله قلبنا.. وغيابك أكبر من أن يملأه أحد.. ووجودك لا يعوّض..
فقدانك أبداً مش بسيطة يا سهيل العزيز.