البحث عن الأضواء والشّهرة ليس من أولويات الحبيب السائح. رغم زخم تجربته الأدبية ومسيرته الشخصية، يفضّل مواصلة العيش بعيداً عن صخب الصالونات الأدبية في الجزائر العاصمة. بعدما عانى من الرقابة ومنعت قيادات حزب «جبهة التحرير الوطني» أولى رواياته «زمن النمرود» خلال الثمانينيات، ما زال صاحب «القرار» قادراً على التأسيس لحساسية مغايرة والخروج عن القوالب المتعارف عليها في الرواية الجزائرية المعاصرة... حساسية تكرّست أخيراً مع روايته الجديدة «زهوة» (2011). في روايات الحبيب السائح، تطغى الأسئلة على الأجوبة. المؤلف يرى نفسه معنياً بما يدور حوله من متغيّرات يومية. لكنه يتجنّب الخطابات المباشرة، وحصر وظيفة الكتابة في المؤانسة. يخبرنا بأن إتمام روايته الأخيرة مثلاً، أخذ منه جهداً لا يقل عن أربع سنوات، بالنظر إلى تركيزه على التجديد اللغوي والبحث القاموسي في الكتابة السردية.
قناعة يراهن عليها منذ نحو عشرين سنة، خصوصاً بعد منع روايته الأولى من التداول في المكتبات: «يعود ذلك إلى تجربتي المريرة مع رواية «زمن النمرود» التي مثّلت لحظة قطيعتي مع الكتابة «الملتزمة». التجأت بعدها إلى دائرة صمتي معيداً صياغة أسئلتي حول الكتابة. وجاءت بعدها «ذاك الحنين» لتعلن بداية مشروعي اللاحق الذي بنيته على نفي القارئ، بما هو رقيب على البلاغة وعلى طرائق السرد». ألزم المؤلف نفسه خيارين: إما كتابة رواية أدبية أو لا شيء. ألغى تماماً شريحة القراء الباحثين فقط عن لذّة النصّ، مركّزاً جهده على الكتابة العالمة في بلد يشهد تراجعاً مستمرّاً لمستوى التعليم، وتزايد نسب الأميّة بالمعنيين المباشر والمجازي.
التجربة المريرة التي يتحدث عنها السائح تعود إلى عام 1985، مباشرة بعد صدور باكورته «زمن النمرود». هنا، بلغ ذروة الجرأة في تعرية السلوكيات القبَلية والابتزازية التي تنتهجها سياسة الحزب الواحد، وممارستها القائمة على التزوير لدى كل استحقاق، واعتمادها النفاق السياسي والأحادية وقمع الرأي الآخر. يومذاك، تعرّض الروائي الجزائري لسلسلة من الضغوط: «كان هناك مسؤول لا يهمّني الآن ذكر اسمه لأنه صار من الأموات، يشغل منصباً في السلم التراتبي القيادي لجهاز الحزب. وإذا به يرفع تقريراً إلى وزارة الثقافة، فأمرت بسحب الرواية من المكتبات وإعدام نسخها. وقبل ذلك، أمرََ بعقد اجتماع طارئ للمجلس الشعبي الولائي الذي قرر إصدار تعليمات إلى الأمن المحلي بهدف سحب النسخ. وفوق كل هذا، تم تأليب الرأي العام المحلي ضدي شخصياً». هذه الواقعة تركت آثاراً نفسية كبيرة على المتحدث الذي فضّل بعدها الانعزال سنوات. وكان لا بدّ من الانتظار 12 عاماً كي نشهد عودته برواية ثانية بعنوان «ذاك الحنين» (1997)، حملت بذور مشروعه الروائي الذي اتضحت ملامحه مع رواية «تماسخت» (2002).
المعروف أن الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، نشأت على يد عبد الحميد بن هدوقة (1925 ــــ 1996)، صاحب «ريح الجنوب» (1971)، تلاه الطاهر وطار في «اللاز» (1974). وبقدر ما يعود لهذا الجيل فضل التأسيس، يعاب عليه الاستسلام لمنطق الرقابة الذاتية، وتمايله حسب آراء الحزب الواحد وأهوائه، علماً بأنّ الاسمين الروائيين المذكورين شغلا مناصب سياسية في جهاز الحزب. ووجب انتظار وصول جيل جديد ثان ـــــ ممثلاً بالراحل عمار بلحسن وبالحبيب السائح وغيرهما ـــــ كي تستعيد الرواية الجزائرية جرأتها، وتتحرّر من المكبوتات والتراكمات السياسية. لكن هذا الجيل لم يستطع مقاومة التحولات والاضطرابات التي شهدتها البلاد، خصوصاً في مطلع التسعينيات حين دخلت الجزائر في حمّام الدم الذي كلّفها مئتي ألف ضحية.
فشل الكثير من الكتّاب في التعامل مع تلك المرحلة. وسارع بعضهم إلى التأريخ لها في نصوص استعجالية، اختصرت الوقائع في الصراع الثنائي بين السلطة والجماعات الإسلامية، متناسية طرح الأسئلة الأهم، حول جوهر الصراع، والإقرار بفشل النخبة وانسحابها المبكر من المواجهة تزامناً مع تصاعد مدّ الجماعات الدينية. انتظر الحبيب السائح نحو عشر سنوات بعد نهاية الكابوس كي يصدر روايته «مذنبون، لون دمهم في كفي» (2009) التي تحوم حول حقبة التسعينيات: «كتبت الرواية شهادةً على أمرين: أولهما؛ سياسة اللاعقاب التي انتهجت تجاه من أجرموا في حق الجزائر. ثانيهما تطبيق شعار «المصالحة والوئام» من دون اعتراف مسبق بالذنب، فهما جرمان آخران في حق الذاكرة الجماعية».
مثله مثل الكثير من المثقفين الجزائريين، لم يتقبل السائح فرضية اللاعقاب التي أقرتها الحكومة في التعامل مع المجرمين، من خلال العفو عنهم من دون محاسبة أو مساءلة. سياسة فرضها الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة مباشرة بعد وصوله إلى السلطة في الجزائر عام 1999. مساءلات الحبيب السائح للراهن وللماضي تتواصل في روايته الجديدة «زهوة»، حيث يجد البطل يوسف نفسه محاطاً بحاضر مفخخ بالمتناقضات، يعيش بين يوتوبيا الماضي وأمل تجاوز عقد الحاضر.
«زهوة» تعكس صورة مصغّرة عن جزائر واحدة ومتعددة في آن معاً. جزائر ترفض أن تغيّر ملمحها الكئيب، وتصمد في وجه رياح التغيير التي عبرت تونس ومصر، حيث أشعلت فتيل ثورتين شعبيتين تابعهما الحبيب السائح بكل ما حملتاه من بهجة وخيبة أمل. يقول:«الشيء الذي يتهدد انتفاضتي تونس ومصر أن تدخلا في فخّ الابتذال. هناك قوى محلية وإقليمية وعالمية لا تريد أن تنجح التجربتان وتشكّلا نموذجاً لبناء ديموقراطية بإرادة القوة الحية التي فجّرت الانتفاضتين». ويضيف: «ما أتمناه أن تستوعب المعارضة اليمنية والسورية، الدرس الليبي وأن تواصلا العمل سلمياً».
عاش الحبيب السائح تجربة ثرية بين التدريس في الثانوية والجامعة. ورافق الكثير من أهم الأسماء الثقافية في الجزائر، على غرار الراحل بختي بن عودة الذي أسهم معه في تنشيط «النادي الأدبي» في جريدة «الجمهورية» خلال الثمانينيات، والطاهر وطار الذي شاركه تأسيس الجمعية الثقافية «الجاحظية». كما ترجم بعض أعمال الروائي رشيد ميموني، والشاعر جمال عمراني إلى العربية، واهتمّ بنحو خاص، بمبدعي الغرب الجزائري الشباب الذين منحهم فرصة للظهور والتعبير عن أنفسهم من خلال تأسيس «مهرجان القصة القصيرة» في سعيدة. وبفضل كل ذلك ربّما، يبقى متمسكاً بالحقّ في الحلم...
على رغم تعقّد الوضع في بلد المليون ونصف المليون شهيد، وتضاؤل فرص حصول التغيير، على الأقل في المدى المنظور، فإنّ السائح يبقى يحمل الرجاء نفسه الذي يرافقه منذ استقلال البلد (1962): «إن الحلم لا يزال قائماً، كما كان عند بداية الاستقلال: أن نعيش في بلدنا مواطنين، ونبنيه بتصوراتنا عن الدولة الحديثة».



5 تواريخ


1950
الولادة في معسكر ـــ غرب الجزائر

1979
صدور مجموعته القصصية «القرار» (اتحاد الكتاب العرب، سوريا)

1985
باكورته الروائية «زمن النمرود»
(المؤسسة الوطنية للكتاب ـ الجزائر) منعتها السلطة وأعدمت نسخها

1997
رواية «ذاك الحنين»

2011
صدور روايته «زهوة»
(دار الحكمة، الجزائر)