في كتابها «كلّما أنتِ، و كلّما انحنيت على أحرفكِ» (دار نلسن)، تكتب صباح زوين بلغة قلقة ومتسائلة. لا تسعى إلى قول شيء معين، بقدر ما تسعى إلى البحث عن هذا القول، والدوران حوله بالصور والمجازات والاستعارات. تمتلئ نصوص الكتاب بالرموز والإشارات، لكنها لا تفصح عن معنى واضح. هذه الشاعرة اللبنانية التي انتقلت من الكتابة بالفرنسية إلى العربية لتصدر ثلاثة دواوين بلغة الضاد، تملك فيضاً لغوياً لا ينتظم في معان محددة. تفضل صاحبة «ما زال الوقت ضائعاً» أن تترك خيالها على سجيته، ليرسم ملامح الأمكنة وتحولات الأزمنة وتراكمات التجارب والخبرات العاطفية، من دون أن تقطع جريانه بأشكال وصياغات أسلوبية: «لم يستحل الوقت لقطات مجبولة من مكان كان يوماً دقائق شغف، تلك دقائق الأمس وتلك بقاياها في خطوط كفّيك المشعّتين، أو بقايا ضحكات في طيات الأبواب».
بصيغة الأنت، تخاطب زوين ذاتها، لتسرد انطباعات ولقطات من سيرة ذاتية تتصاعد من التفاصيل البسيطة إلى الأسئلة الجوهرية، هذا ما أنقذ النصوص من الوقوع في فخ الفكر المجرد. رغم عمقها، ووضوح البعد الفلسفي فيها، حافظت نصوص الكتاب على انسيابيتها وتلقائية سردها، بسبب انطلاقها من الملمح الحياتي. «كأنكِ اليوم تموتين لفرط الأمس، أو كأنك لكثرته في عينيك اللامعتين، أو هو الكثيف في يديكِ وتكثّفت كثرة الأمكنة في وسطكِ، ثم عندما، تلك المساءات عند الغروب، وفي البيت يكون الوقت قد مال نحو النافذة، ونحو طاولةٍ وكراسٍ مال نحو الحزن والزوال».
تصف صاحبة «البيت المائل والوقت و الجدران» حالتها الداخلية من خلال التبعثر اللغوي الذي تتقصد افتعاله في نصها. الذات عند هذه الشاعرة تتماهى مع اللغة وتتمدد في كلماتها وأحرفها. هذا التماهي بين الذات واللغة سرعان ما يصبح فضاءً واسعاً لطرح أسئلة وجودية وفلسفية تحاول زوين من خلالها أن تعثر على ذاتها القديمة. التفاصيل لا تحضر بهدف السرد المحض، بل يجري استنطاقها في عملية شعرية متقنة، لقول ما يمور في الذات من أسئلة وهواجس.
قد يبرر ذلك استخدام صاحبة «لكن» لأسلوب مماثل في كتابتها الشعرية، إذ تزول الفروق بين الحاجة الداخلية للكتابة والكتابة كفعل تقني، بين اللغة كمادة إبداعية وما تريد أن تقوله هذه اللغة من أفكار. ثمة شكل أسلوبي يمزج الذات باللغة، الشعر بالسرد، عناصر العالم بالرؤية لهذا العالم. تتفرد زوين في تأسيس مناخات هذا الأسلوب، تبعاً لتجاربها وتفاصيل ذاكرتها ورؤيتها الفلسفية للوجود: «كيف المعنى والرؤية في غبشها أنت التي تخشين على اللغة أو كم تخافين من فقدانها، لأنك، لأنها تضيع تلك اللغة ومن بين أصابعك الرشيقة هي تتسلل، أو هي أيضاً في الفراغ تتناثر».