لن تهدأ تداعيات أزمة «نيوز أوف ذي وورلد» قريباً. فضيحة التنصّت التي شغلت الدنيا في الأسبوعَين الأخيرَين تخطّت حدودها الإعلامية، وحتى السياسية، لتصل إلى الأسس الأخلاقية والمهنية التي أرستها المنظومة الإعلامية لإمبراطورية روبرت مردوخ في العالم خلال نصف قرن. ولا شكّ في أن الفضيحة التي هزّت بريطانيا أخيراً، بدأت تظهر ارتداداتها في كل الدول التي دخلها الحوت الأوسترالي وشركته «نيوز كورب» لتهزّ عرش إحدى أضخم المجموعات الإعلامية في العالم.حتى الساعة، لا يزال مبكراً الحديث عن انهيار «نيوز كورب». سلطة هذه الشركة تخطّت خلال أكثر من خمسين عاماً الدور الإعلامي، لتصبح لاعباً رئيسياً على الساحتَين السياسية والاقتصادية في العالم. ولم يلقّب روبرت مردوخ مصادفةً بـ«صانع الملوك». بل أدى دوراً رئيسياً في دعم عدد من السياسيين في الولايات المتحدّة، وبريطانيا... مثل وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر، و... رئيس الوزراء البريطاني الحالي دايفيد كاميرون. ولعلّ هذه النقطة تحديداً زادت من حدّة الأزمة التي تعيشها لندن حالياً، وخصوصاً أن كاميرون عيّن رئيس التحرير السابق لصحيفة «نيوز أوف ذي وورلد» آندي كولسون، مسؤولاً عن الاتصالات في مكتبه. وكان قد أفرج عن كولسون أخيراً بشروط، بما أنه كان يرأس تحرير الصحيفة من عام 2003 حتى 2007، وهي السنوات التي كانت عمليات التنصت في المطبوعة في أوجها.
لكن هل تنقذ العلاقات السياسية روبرت مردوخ مرة جديدة؟ يبدو الجواب صعباً حتى الساعة، وخصوصاً إذا ما نظرنا إلى تعاطي السلطات البريطانية مع أزمة التنصّت منذ خروجها إلى العلن للمرة الأولى عام 2005؛ إذ تردّدت أجهزة الأمن في فتح تحقيق في هذا الموضوع، بل كان جوابها واحداً: «لا أدلّة على عمليات تنصّت». وهو ما دفع صحيفة «فايننشل تايمز» أخيراً إلى نشر افتتاحية طرحت فيها علامات استفهام حول تورّط الحكومة وأجهزة الأمن في هذه الفضيحة: «إن تردد المسؤولين السياسيين في فتح تحقيق في هذا الملف، وفي مجموعة مردوخ الإعلامية، أمر يثير الريبة».
وإن كان لقب «صانع الملوك» ينطبق على مردوخ، فإن لقباً آخر قد يشبهه أكثر، هو «صانع الصحافة الصفراء في بريطانيا». في عام 1969، وفي وقت كانت فيه الصحافة «الشعبية ـــــ people» تشهد موجة انحسار في العالم، وتحديداً في أوروبا، قرر روبرت مردوخ شراء «نيوز أوف ذي وورلد» و«صن»، ليعيد البريق إلى هذا النوع من المطبوعات. هكذا باتت صحافة الفضائح صفة تلازم الإعلام البريطاني حتى اليوم. وقد ارتكزت هاتَان المطبوعتَان على «ثالوث مقدّس» رفع عدد مبيعاتها إلى أرقام قياسية، هو: الجرائم الغامضة، مثل اختطاف الفتاة ميلي داولر (13 سنة) وقتلها، والجنس من خلال كشف تفاصيل العلاقات الحميمة (والسرية) للمشاهير مثل الممثل هيو غرانت، لاعب كرة القدم دايفيد بيكهام وزوجته فيكتوريا، عارضة الأزياء كايت موس... أما الأقنوم الثالث، فهو الفضائح التي غالباً ما كان يتّضح أنها خاطئة أو ناقصة. ولعلّ خير دليل على ذلك الحملة الشعواء التي أطلقتها «نيوز أوف ذي وورلد» عام 2000 ( بقيادة ريبيكا بروكس) على المتحرّشين جنسياً بالأطفال، فنشرت أسماء وعناوين أشخاص «اشتبهت» بأنهم قاموا بعمليات تحرّش بأولاد قاصرين، ليتّضح لاحقاً أن أغلب هذه الأسماء والعناوين كانت خاطئة!
كذلك، تظهر نظرة سريعة إلى أبرز وسائل الإعلام التي يملكها مردوخ حول العالم قاسماً مشتركاً في ما بينها، هو ترويج مجموعة من المواقف السياسية والاقتصادية. وخير مثال على ذلك أداء شبكة قناة «فوكس نيوز» الأميركية (هل سمعتموها تلصق صفة «إرهابيين» بالأميركيين ذوي الأصول العربية arab terrorist؟). حتى إنّ الاختصاصي في مجال الميديا، الفرنسي جان ـــــ ماري شارون، ذهب أبعد من ذلك، فقال في مقابلة مع صحيفة «لو موند» الفرنسية إن «مردوخ جعل من «نيوز أوف ذي وورلد» مطبوعة شوفينية، معادية لأوروبا، وتعاني من رهاب الأجانب». وهي صفات تنطبق على معظم وسائل الإعلام التابعة لـ«نيوز كروب»، وعلى شخصية مردوخ ربما، أليس هو القائل خلال العدوان على غزة: «الشعب الإسرائيلي يحارب حالياً عدوّنا المشترك، وهو عبارة عن مجموعة من المجرمين الذين يقتلون بدم بارد، ويكرهون الحرية والسلام»! وفي عام 2006، سُرّب إلى العلن حديث بين مردوخ، والعاملَين في «فوكس نيوز» بيل أورايلي، وشون هانيتي. يومها قال صاحب «نيوز كورب»: «ليحمِ الله مشاهدينا الأغبياء والحمقى، فلولاهم لما استمرّت «فوكس نيوز» ولما أصبحت مليارديراً». أما الحادثة الأشهر فكانت عام 2009، عندما نشرت صحيفة «نيويورك بوست» (يملكها مردوخ أيضاً) رسماً كاريكاتورياً عنصرياً صوّر الرئيس باراك أوباما عى شكل قرد. وقد أثار هذا الرسم حفيظة الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، ما اضطر مردوخ إلى الاعتذار في رسالة مكتوبة في الصحيفة نفسها.
نتيجة لكلّ ما سبق، لم يستغرب مراقبون بريطانيون، وحتى فرنسيون، وأميركيون، أن تكون إحدى مطبوعات «نيوز كورب» قد لجأت إلى التنصّت على شخصيات عامة، ومواطنين عاديين للحصول على سبق صحافي «روبرت مردوخ بنى إمبراطوريته على مبدأ المنافسة المشروعة وغير المشروعة، وهنا كل شيء مباح».
إذاً، تطول لائحة الانتقادات الموجّهة إلى مردوخ ووسائله الإعلامية، لكنّها حتماً لا تنفي واقعاً واحداً، هي أن هذا الرجل الثمانيني أعاد هيكلة الخريطة الإعلامية في العالم، وإن بطريقة بعيدة عن مهنية وغير إنسانية: في 24 كانون الثاني (يناير) 1986، صرف روبرت مردوخ أكثر من 5 آلاف موظّف في المطابع التي كانت تصدر مطبوعات «نيوز إنترناشونال» في لندن. والسبب إضراب هؤلاء للحصول على بعض المطالب المعيشية والمهنية! يومها قال الحوت الأوسترالي إن كل يوم إضراب يكلّف ملايين الدولارات، وأعلن من دون مورابة أنه يجب التخلّص من الحركة النقابية في بريطانيا والعالم. هل سمعتم يوماً بـ«الرأسمالية المتوحّشة»؟ إن لم تفعلوا، فتعرّفوا إلى روبرت مردوخ... قد تتضح الصورة.