لا يروي محمد أبي سمرا (1953) في «طرابلس ـــــ ساحة الله و ميناء الحداثة» (دار الساقي) سيرة مدينة، بقدر ما ينبش في زوايا هذه السيرة، ويبحث في الظواهر الاجتماعية والسياسية التي ولّدتها سنوات الحرب فيها، وما تبعها من سلم أهلي هشّ. يعتمد الروائي والصحافي اللبناني على مجموعة تحقيقات أجراها على مدى عشر سنوات (2000 ـــــ 2010) عن طرابلس، وشهادات شخصية نشرت على حلقات في جريدة «النهار»، لتكون مادته الأولية في تحليل عوالم عاصمة الشمال، والتسلل إلى أسرارها وكواليس إنتاج الحركات اليسارية والإسلامية فيها، مستقصياً ملامح الحداثة القليلة في الجهة البحرية من المدينة.يمتد الكتاب على ثمانية فصول تمتزج فيها التحليلات السوسيولوجية، والتحقيقات الميدانية عن الأحياء والشوارع، وشهادات أشخاص عاشوا أكثر الحقب سخونة في تاريخ الفيحاء. صاحب «سكان الصور» يبتعد عن المنهجية الصارمة وينوّع في استخدام أدواته المعرفية والتحليلية. القصد هنا ليس عرض تاريخ المدينة، بل الدخول إلى هذا التاريخ والمكوث في شقوقه الضيقة عبر شهادات حية تبين التعابير الاجتماعية والسياسية التي مرت على هذا المجتمع.
المثقف الإسلامي، كما يسمّيه أبي سمرا، الذي كان ناشطاً في صفوف الحركة اليسارية، تحوّل مع سيطرة الحركات الإسلامية على المدينة، وتحديداً حركة التوحيد الإسلامية، إلى مساعد للداعية المعروف سعيد شعبان. يقدم هذا المثقف صورة إسلامية عن تاريخ المدينة، لكنها تبدو على صلة عامة بوعي سكان طرابلس لتاريخ مدينتهم، والصورة الموجودة في وعيهم التي يحبّون تمثّلها في مخيلاتهم. مدينة رفضت أن تكون عاصمة دولة لبنان الكبير، ونزل أهلها إلى الشوارع احتجاجاً على ذلك، لتواجههم دبابات الانتداب الفرنسي وتدهس بعضهم.
يستعرض صاحب «الرجل السابق» حقب الحرب والسلم التي مرّت بها المدينة، وتأثيراتها في حياة أبناء المجتمع الطرابلسي. يسرد علاقة الحركات اليسارية والإسلامية بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبقية الأطراف الإقليمية التي كان لها حضورها في الحرب اللبنانية، كما يحكي عن المجازر الدامية والتصفيات الوحشية التي شهدتها المدينة، والحروب الطائفية المتبادلة بين بعل محسن وباب التبانة، والمجازر التي ارتكبتها حركة التوحيد الإسلامية بحق شيوعيي المدينة ويسارييها.
يفرد أبي سمرا فصلاً للحديث عن شارع الميناء، الذي يمثل الحداثة المدينية للفئات المتوسطة في المدينة، مستعرضاً أنماط العيش وسلوكيات الأفراد القاطنين في هذا الشارع، كما يترك لحسه السوسيولوجي (العلوم الاجتماعية هي مجال اختصاصه)، مهمة الولوج إلى حي باب التبانة ـــــ مستنداً إلى أشغال الباحث الفرنسي الراحل ميشال سورا في هذا المجال ـــــ ليحاول التقاط معاناة أهله المهمشين، حيث العنف والشجارات الدائمة. لا يتخلى صاحب «بولين وأطيافها» عن مهنته كروائي. تبرز اللغة السردية الحكائية المتينة في أكثر من مكان. وهذا ما يلائم البنية المعرفية التي انتهجها الكاتب، حيث التأريخ اليومي البسيط والبطيء للمجتمع الطرابلسي في حقب محددة وعبر رواة متعددين، ومن أطياف اجتماعية وسياسية مختلفة سعى أبي سمرا إلى تجميع رواياتهم وإعادة تركيبها من دون أن يكون هدفه تقديم خلاصة لعمله. هذه النوعية من الكتابة لا تحتمل خلاصات ونتائج جاهزة، بقدر ما تكتفي بالبحث داخل ظواهر ومفاصل اجتماعية، والتنقيب عن سِيَر وشخصيات أدت دوراً في مراحل سياسية معينة.
محمد أبي سمرا يريد أن يواجه الحرب بالحديث عنها والتفتيش داخل ثناياها، هذا ما يقوله في المقدمة: «الكتاب تمرين على رواية نتف من سيرة حروبنا وجماعاتنا ومجتمعاتها علّ هذه البلاد المنهكة بالحروب والمترنحة على شفيرها، تلجم بالسياسة والتأريخ والرواية سقوطها في الحرب».