«توفّي لوسيان فرويد بهدوء في منزله اللندني، بعد مرض قصير». بهذه الكلمات القليلة التي نقلتها محاميته، انتهت، قبل أسبوع، المسيرة الفريدة لأحد أشهر الفنانين البريطانيين، وأكبر فناني النصف الثاني من القرن العشرين. في عزلة ذلك البيت في ناتينغ هيل إذاً، حيث المرسم الشهير الذي لم يكد يغادره في السنوات الأخيرة... بلغت تمامها رؤية لوسيان فرويد (1922 ـــــ 2011). هذا المحترف يختصر عالم الفنّان، الصومعة التي تحميه من العالم، بعيداً عن الموضة وصخب الوسط الفنّي.
ذاك مسرحه بإضاءته الاصطناعيّة الفجّة، بكائناته الأليفة وأشيائه القليلة، وسط ديكور ينبعث منه إحساس بالفراغ، بالتخثّر، بالقذارة، بالحياة المخلّعة، بالزمن المتوقّف. نكاد نعرف المحترف الفارغ تقريباً، لكثرة ما رسمه: أرضه المتسخة، والمغسلة القديمة، والجدران الملطّخة بالألوان. نكاد نعرف البيت ورواده القلائل. «الداخل الفسيح» في غرفة الجلوس، النافذة المطلّة على الشارع حيث فتاة صغيرة تلعب لم يفطن إليها أحد، أو النافذة الأخرى التي تطل على الحديقة، حيث دفن كلبه بلوتو تحت النباتات الكثيفة.
كان لوسيان في الحادية عشرة حين غادرت أسرته برلين هرباً من النازيّة. ولم يلبث أن التحق بهم في لندن جدّه سيغموند فرويد مؤسس علم النفس التحليلي، ليمضي هنا الأشهر الأخيرة من حياته. دخل الشاب مبكراً مدرسة فنية مرموقة في لندن. وجنّد في البحريّة خلال الحرب قبل أن يسرّح بسبب صحّته الضعيفة. عاد إلى الدراسة في «غولدسميث كوليدج»، وسرعان ما لفت الأنظار، بعد معرضه الأوّل في «غاليري لوفيفر» اللندنيّة.
يتوقف النقاد عن أبرز لوحات هذه المرحلة «غرفة الرسام» (١٩٤٤): كنبة ونبتة خضراء ورأس حمار الزيبرا يطل من الشباك، للإشارة إلى التأثيرات السرياليّة في مرحلته الأولى، ولبصمات فرويديّة لن تلبث أن تختفي بدورها. بعد البدايات «السرياليّة» اجتاز مرحلة واقعيّة مطعّمة بالنيو رومانسيّة، امتاز فيها أسلوبه بالخطوط الدقيقة والضربات الناعمة في بورتريهات يلعب فيها الضوء مكانة أساسيّة، وتكاد تتمحور حول العينين والنظرات الغريبة. لكن كل ذلك لن يكون إلا تمهيداً لفنّه الحقيقي القائم على القسوة، والحدّة الجارحة، والتعامل مع الواقع من دون مجاملة أو رحمة أو تكلّف. إنّها المرحلة ما بعد الواقعيّة التي تمتاز فيها اللوحة بالضربات القاسية، والفرشاة الغليظة والزوايا الحادة، والمواد السميكة، والألوان الترابيّة الممزوجة بالرمادي والأبيض الرصاصي.
تجلّى فرويد في فنّ البورتريه والبوتريه الذاتي، مكرراً التيمة نفسها إلى ما لا نهاية. وجوه شاحبة، وجلد مجعّد ومبقّع، وقامات متأكلة. شخصيات كأنّها عائمة خارج الواقع، أو مستلقية في وضعيات غير مريحة، في عالم مقفل، وسط إضاءة اصطناعيّة. هنا يكمن سرّ الفنان: في تلك المقاربة المطلقة لفنّ الرسم، عبر معالجة دقيقة تلامس حدود الهوس للموديل العاري. المشاهد «الداخليّة» التي أخرجها بعناية، يؤدي فيها الفضاء دوراً محوريّاً. «أريد رسماً من لحم ودم» كان يردّد، معتبراً أن «اللوحة هي الشخص».
هل رسم لوسيان فرويد في مرحلته الأخيرة، سوى الموت؟ أو بالأحرى، حالة القلق الميتافيزيقي الذي يستبطن تلك النهاية المعلنة. رسم التخثّر والتهدّل والترهّل والقبح، وسط حالة من الانتظار الطويل والصمت والعنف المختزن. التقط الأجساد السافرة التي تنضح بعريها، وتظهر على حقيقتها تحت ضوء ساطع، لا يترك مجالاً لخداع أو اصطناع أو تنميق أو «لياقة اجتماعيّة».
الفنّان الذي انتمى مع صديقه فرانسيس بايكون وآخرين إلى ما عرف بـ«مدرسة لندن»، التقط العيوب وأسرف في تضخيمها. توقف طويلاً عند ملامح الوجوه، متلذّذاً في تجسيد أدق تفاصيلها، دائماً بتلك الحدّة التي طبعت تجربته. ذات مرّة استعاض عن الموديل العاري بوجهه فقط: «لم أكن أعرف أن بوسعي رسم كل هذا العري من خلال الوجه». العري هو موضوعه الأثير. الأجساد الضخمة البدينة التي تتهدّل منها كتل اللحم كما «بيغ سو» في لوحة «مسؤولة الأعمال الخيريّة نائمة» (١٩٩٥، بيعت عام 2008 بـ33.6 مليون دولار في «كريستيز). الأجساد الهزيلة التي تظهر عظامها تحت الجلد المتجعّد. رسم نفسه كذلك في مجموعة لوحات تعطي للبورتريه الذاتي نكهته الخاصة. هنا يبدو عارياً إلا من حذاء مبقور، وفي يديه أدوات الرسم، وهناك يبدو كما خلقه ربّه، عجوزاً يشهر فرشاة أسنانه...
إنّها نظرة الفنّان، الفجّة والمربكة، إلى الواقع، تلتقط العيوب وتضخّمها، تفضح الوضع الإنساني المزري، بدقّة ما فوق فوتوغرافيّة، وجماليّة فائقة تحاور لوحات المعلّمين الكبار: واتو وروبنز وسيزان وجيورجيونه... لم يرسم لوسيان فرويد غالباً إلا أشخاصاً مقرّبين، مع بعض الاستثناءات مثل الصناعي الإيرلندي وابنه وكلبه، أو ملكة بريطانيا اليزابيت الثانية (أثار البورتريه جدلاً واسعاً عام ٢٠٠١ بسبب أسلوبه الفج الذي يلامس الكاريكاتوريّة). رسم أيضاً العارضة كايت موس حبلى. وحين اختلف مع جيري هال، زوجة ميك جاغر، وكانت الموديل النسائي للوحته الشهيرة «داخل فسيح، ناتينغ هيل» (١٩٩٨)، استبدل بها مساعده في الوضعيّة نفسها، بثدي امرأة، يُرضِع طفلاً.
أعمال لوسيان فرويد التي صنّفت في خانة «التصويريّة الجديدة»، أثارت كثيراً من الجدل، وعدّها بعضهم منفّرة وبورنوغرافيّة، فيما هي رحلة غريبة إلى أقصى حالات الإنسانيّة، واشتغال على الحياء والفضاء الحميم، ما يخلق لدى المتفرّج حالة من الإحراج والانزعاج؛ إذ يشعر بأنّه متلصص ودخيل على المشهد. ترى، كيف للفنّ أن يكون من دون متلصّصين؟


Exposition Lucian Freud, L'atelier au Centre... by centrepompidou