دمشق | الحملة الباكرة التي شنها شباب فلسطينيون وعرب على «في حضرة الغياب» تفتح الباب أمام أسئلة تتعلق بمعنى التغيير في الذهنية العربية. الثورات لم تنجز عملياً، آلية تفكير جديدة في مفهوم الحرية والاختلاف. هكذا تحضر مفردات الإقصاء والتخوين من القاموس نفسه الذي قامت ضده هذه الثورات، كأن اختراع الشعارات المضادة وحده يوجه ذهنية الشباب العربي. حلقة درامية واحدة من سيرة صاحب «لماذا تركت الحصان وحيداً» فجّرت كل هذه الاحتجاجات، دفاعاً عن «الأيقونة» رغم حاجتنا إلى تحطيم الأيقونات، وإلّا فسنبقى متمترسين في الخندق نفسه الذي أوصلنا إلى طريق مسدود. لا شك أن سيرة الشاعر الفلسطيني تحتاج إلى رؤية عميقة في تفكيك صورته الملتبسة، نظراً إلى تعدد الرواة، وتجربته الحياتية العاصفة التي تحتمل وجهات نظر متناقضة. أما أن نرسم صورة قدسية له مقتبسة عن نصوصه «الثورية؟» وحدها، فتلك ذهنية مستقرة، لا تشبه اللحظة التي ننادي بها. ما المانع من مقاربة حميميات الشاعر، أو تخيّل حياة موازية، في عمل روائي، لا تسجيليّ، أم أن المحرمات ذاتها هي التي توجه نصوصنا الجديدة؟ هناك أكثر من نسخة فنيّة عن صورة المسيح، تبلغ حدود التجديف. ما أثارته حلقة من «في حضرة الغياب» من احتجاجات، يؤكد سطوة عقلية قديمة تعيش فصاماً بين ما تحتج لتغييره في الشوارع العربية، وما تتمترس به من قيم عدّتها سبب البلاء والتخلّف. ما الفرق إذاً، بين صورة الزعيم الأوحد التي يمزّقها المتظاهرون في الساحات، والصورة المقدّسة التي نسعى إلى وضعها في برواز مذهّب على الجدار المائل؟ لعل ما يحدث هنا مجرد تمارين أولية للمنع، ورقابة أشد بطشاً من الرقابات الرسمية السيئة الصيت. لم يحتجّ عشاق غيفارا على ظهوره بصورة «دون جوان» في أشرطة عدة، ولم تسئ قصائد بابلو نيرودا الحسيّة إلى صورته كشاعر ثوري في شريط «ساعي بريد نيرودا». ثم لماذا لا يُنجز أكثر من عمل عن درويش بصوره المتعددة من دون أن نصادر وجهة نظر الآخر؟ هكذا نستعيد السيناريو نفسه الذي استخدمه بعضهم في حربهم ضد غادة السمّان، حين تجرأت على نشر رسائل غسان كنفاني لها، بصفته عاشقاً، وتالياً لن ننجو من هذا النفق المظلم.