الرسم مسألة شخصية لجان مارك نحاس (1963). مزاجه في الرسم يشبه أمزجة الشعراء في الكتابة. التفكير في المتلقي مهمّش أو مؤجل. لا أحد يشاركه لحظة الرسم سوى الكائنات والأشكال والمسوخ التي يحشدها في أعماله. كائنات بشرية وحيوانية مينيمالية ومتلاصقة، لا تكفّ عن بث الهلع والسوداوية. وجوه فاغرة الأفواه والعيون، لا أمل لها بالطمأنينة. حضورها المتلاصق ينتج نوعاً من الضراوة والشراسة، ولا يترك مساحات شاغرة في اللوحة. معرضه الجديد في الجمّيزة «جنّت Ginette عمرها 18»، لا يشذّ عن تلك القاعدة.
الحرب الأهلية هي الثيمة الأساسية في تجربة الفنان اللبناني الذي برع في نقل تروما الحرب، وصارت أعماله تُشهر تروما مماثلة في وجه المتلقي. ما يرسمه حصيلة وساوس سيكولوجية وكوابيس واقعية تحولت مع الوقت فناً شخصياً. كأن الرسم تفريغ متواصل لمخزون الهلع الذي لا ينقص كثيراً بفضل إمداداتٍ توفرها حروب وجولات عنف لاحقة في مجتمع لا يريد الخضوع لعلاج حقيقي.
«كلما أنجزت عملاً له علاقة بذاكرة الحرب، أكتشف أني أتحدث عن نفسي»، يقول جان مارك الذي رحَّل المذاق الفسيفسائي المحموم إلى معارضه التالية: تجاورت اللوحات الصغيرة المنجزة بمزاج هذياني وتلقائي مع طيورٍ هيتشكوكية متدلية من السقوف، في معرض «رأساً على عقب» (2007). في «زمن السلم زمن الحرب» قبل عامين، عرض نحاس المزيد من كوابيسه البيروتية، لكنه دعانا إلى ما يمكن وصفه بالمنعطف في أعمال جديدة عرضها العام الماضي في محترفه. أعمال منجزة بالمزاج المينيمالي ذاته، وبالخط الأسود نفسه، إلا أنها متخففة من الرعب الذي احتل وجوه أشخاصها الذين بدوا في حالٍ أفضل في غياب شبه كامل للمسوخ والحيوانات غير المروّضة التي اعتدناها سابقاً.
لم ينقلب الرسام على نفسه تماماً، لكنه عاد إلى موضوعات وتقنيات شغلته قبل دراسته في فرنسا أثناء الحرب. عاد إلى مناخات شرقية ومحلية، مفضّلاً الابتعاد عن الإملاءات الغربية. عثر على فضاء خصب ومتجاوب مع تقشفه وزهده بالألوان والمبالغات التنميقية. لم يتخلَّ كلياً عن التقنيات والأساليب التي تعلمها. ظل رسامون مثل بيكاسو وماتيس وغويا موجودين في مدونته الشخصية، لكنه بحث عن تأويلات شرقية لتأثيراتهم. استرخت لوحته قليلاً من عصبيتها وعنفها، لكنها حافظت على احتياطيّها النفسي المتوتر المترجم على شكل حشود متلاصقة داخل جداريات كبيرة أو لوحات أصغر حجماً.
معرضه الحالي في «مقهى جينيت»، في حيّ الجمّيزة البيروتي، خطوة أخرى ترسّخ المنعطف الذي نتحدث عنه. لكن المشكلة مع رسام أصغى فترات طويلة للحروب والأزمات، أن فنه مهدد دوماً بفقدان الطمأنينة. هكذا، لم يطُل احتفاء نحاس بنقاهته الموقتة. على مدى يومين، أنجز جدارية ضخمة (Live)، رسم مباشر وحيّ للوحة جصية (Fresco) على مرأى من رواد المقهى، ومعظمهم من الطبقة المرفّهة التي لا تهتمّ بالفنّ ولا بالثورة... رسم رؤية ملحميّة صاخبة من وحي «الربيع العربي». كذلك حضر الربيع العربي في اللوحات الـ22 المعروضة في الطبقة الأولى من المقهى. الجدارية المرسومة على حائط المقهى مباشرة مرشحة لتكون ديكوراً ثابتاً للمحل، أو أن تمحى مع انتهاء المعرض. لا ينفي نحاس الفكرة: «إنها ديكور وأكثر من ديكور. إنها جدارية مجمَّلة وذات طابع سياسي أيضاً».
يعزو تضاؤل الشراسة في شغله الراهن إلى انغماسه أكثر في الأسلبة العربية والفارسية التي تعطي أهمية للسطوح الواسعة، المحكومة بلجم أي ثرثرة زائدة. يسمي نحاس ذلك تخلياً تدريجياً عمّا هو غربي: «كان الخط موضوعي الأثير، وهو الآن يقرِّبني من شرقيّتي. ما زلت استثمر كل تقينة تعلمتها في الخارج، لكني عدت إلى هويتي». في المقابل، الروح الشرقية لا تعني أن يتحول الرسم إلى ترفٍ أسلوبي. ما يحدث في الشارع العربي شقّ طريقه إلى المعرض.
الثورات أخذت مكان الحروب. في الحالتين، هناك قتلة وضحايا وعنف. المساحات المينيمالية التي سبق لها أن ازدحمت بهلع الحروب مزدحمة الآن بوجوه المحتجين والمنتفضين على السلطة. «هناك شعوب تُقتل، ولا يجوز السكوت فنياً على ذلك»، يقول نحاس الذي وشّح باللون الأحمر شخوص اللوحات المرسومة بالأسود. التوشيح الخفيف لائق ببخله اللوني. لا يزال الرسام مخلصاً لزهده وتقشفه. طموحه أن ينجز الكثير بأقل ما يمكن من السرد. يقول إنه سيصل في النهاية إلى لوحة فيها وردة فقط: «لكنها ستكون موجعة أكثر من كل الأوجاع التي احتوتها أعمالي».

«جنّت Ginette عمرها 18»: حتى 15 أيلول (سبتمبر) ــــ «مقهى جينيت» (الجميزة/ بيروت). للاستعلام: 01/570440



قلق وجودي

في بداياته، رسم جان مارك نحاس تجريدات غنائية وطبيعة ميتة وتشخيصات وبورتريهات، لكنها لم تسلم من قلقه الوجودي، ونبرته الوسواسية التي سرعان ما انفجرت في أعماله التالية. نستطيع تأريخ هذا الانفجار ابتداءً من جداريته الضخمة «بيروت حبيبتي» التي عرضت مع لوحات أخرى في المركز الثقافي الفرنسي في عام 2005. جزَّأ الفنان جداريته إلى مئات الكادرات الصغيرة. رسم داخل كل واحد منها ما يصلح أن يكون لوحة صغيرة منفصلة. النتيجة كانت فسيفساء ما بعد حديثة كدّس فيها نحاس فكرته الشخصية والتشكيلية عن العيش في مدينة محبوبة إلى هذا الحد، ومثيرة للذعر في الوقت نفسه.