أنجز خوسه أورتغا إي غاسيت كتابه «تمرّد الجماهير» قبل ثمانية عقود. كانت أوروبا المنهكة، تعيش مخاض ما بين الحربين. حال من التململ والتمزّق وبزوغ أفكار جديدة في الديموقراطية وتطور التقنية، ما وضع تاريخ الحضارة والقيم الليبرالية التي اقترحها مفكرو القرن التاسع عشر في مهب تطلعات الجماهير الغاضبة التي تفتحت على قيم أخرى أطاحت معادلة «أقلية وجمهور». هذه المعادلة التي نهضت تاريخياً على الطاعة وتنفيذ الأوامر.النسخة العربية من هذا الكتاب المفصلي (دار التكوين، دمشق ـــ ترجمة علي إبراهيم أشقر)، تأتي في وقتها، على الأقل لفحص مصطلحات ووقائع تتعلق بمفاهيم مثل الثورة والعصيان والسلطة. الأسئلة والنبوءات التي طرحها الفيلسوف الإسباني المعروف في العشرينيات، لم تفقد أهميتها في تشريح معنى التمرّد وأسبابه. الأقلية النخبوية بنظر الجماهير لم تعد تملك الصك الإلهي المقدس في الحكم؛ «فنحن نعيش تحت هيمنة الجماهير الفظّة». جمهور قطيعي فقد كل قدرة على التديّن والمعرفة، وانخرط في حياة دنيوية، ليستقر في الأماكن المفضّلة في المجتمع، مهاجماً «كل ما هو مختلف وجليل وفردي ونوعي ونخبوي، ومن لا يفكّر كما يفكّر الناس كلهم يتعرّض لخطر الإقصاء».
ما شهده التاريخ الأوروبي ما بين الحربين، يرخي بظلاله اليوم على جغرافيات أخرى؛ إذ ستفرض أطروحات خوسه أورتغا نفسها على ما نكابده عربياً في هذه اللحظة العاصفة، بسبب التباس المواقف وغياب البوصلة الصحيحة في تشريح مآل «الربيع العربي» المتأخر. في الواقع، لن نجد مثالاً حاسماً ومطمْئناً إلى نجاح تمرّدٍ ما في بناء مستقبل أفضل في حال غياب «العقل التاريخي». وهذا ما يثبت عبث كل ثورة عامة، و«عبث كل محاولة لتحويل المجتمع تحويلاً فجائياً»، كما يأمل صنّاع الثورات.
الثورة ـــــ كما يقول ـــــ في عجلتها المتهوّرة والنبيلة برياء من أجل إعلان الحقوق، خرقت دوماً واغتصبت وحطّمت حق الإنسان الأساسي. ديكتاتورية بريمودي ريبيرا (1923 ـــــ 1930) الذي حكم إسبانيا في هذه الفترة وضعت هذا الفيلسوف عبر مجلته الرفيعة «الغرب» في مواجهة معلنة ضد الديكتاتورية، مبشّراً بقيامة الجمهور. وفي المقابل، خاب أمله في الجمهورية التي أتت على أنقاض الحكم الديكتاتوري، لافتاً إلى أن تمرّد الجماهير يمكن أن يكون عبوراً إلى تنظيم بشري جديد لا نظير له، لكنه قد يكون كارثة على المصير البشري. فانتصار الجماهير لا يعني إعلاناً واضحاً عن مستقبل، فممارسة السلطة جماهيرياً «كليّة القدرة، وسريعة الزوال».
من هذه الزاوية، يعوّل صاحب «دروس في الميتافيزيقيا» على السلطة الروحية، وإلا سيسفر العصر عن كارثة ثورية محققة. نحتاج إذاً، وفقاً لما يقوله هذا الفيلسوف، إلى رقعة شطرنج من الأفكار الجديدة لتجاوز الظروف الطارئة، وإلى رافعة ثقافية تمتثل إلى العقل في الجدال، وإلا سنعيش «بربرية بأضيق معاني الكلمة». ويتنبأ أنّ الحضارة الأوروبية مهددة بالانهيار بسبب إخفاق المبادئ التي صنعتها. هكذا يرى في البلشفية والفاشية نموذجين لتقهقر جوهري بسبب الطريقة المنافية للتاريخ التي يعالجان بها نصيبهما من الصواب. يقول «لا شفاء لأوروبا إذا لم يكن مصيرها موضوعاً في أيدي أناس عصريين حقاً، ينبذون كل علامة متهافتة وبدائية».
يتوقف خوسه أورتغا بإمعان أمام أطروحات عصر النهضة، مقارناً إياها بالتحولات التي طرأت على الحياة الأوروبية في عصره، خصوصاً في ما يتعلّق بهيمنة الشباب على مفاصل الحياة السياسية في قارة تشكو الشيخوخة، بعد حرب حزينة، أكثر مما هي بطولية. لكن السؤال سيبقى معلّقاً «لا أدري إن كان انتصار الشبيبة هذا سيكون ظاهرة عارضة أم وضعاً عميقاً اتخذته الحياة الإنسانية وسيسم عصراً بمسميه»، ويضيف «يجب أن يمرّ وقت كيما نغامر بهذا التشخيص».