لا يريدها قصائد تلك التي كتبها الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي (1920 ــــ 1994)، بل نداءات استغاثة لرجل يتمشى في الشارع، وقد قطع عضوه: «رجل لا مثيل له/ نشيد الحرية الذي لم يحشر بين مقالات عن الحفلات ونتائج البيسبول/ ليباركه الله أو أحدهم». إنها ترانيم أيضاً لكل السفلة في العالم «وأنا على رأسهم» كما يؤكد: «قصائد كتبت قبل القفز من نافذة الطابق الثامن» للعاهرات والراهبات، للممرضات ومصارعي الثيران، لمراهني الخيل وسائقي الشاحنات أصحاب العضلات المفتولة، وسائقي الدراجات النارية في «فالي و«يست» و«بيكرزفيلد»...
«الذين أخذوا شهرتي وخرقوها/ وجعلوني أمص وحدتهم وجنونهم/ وحلمهم بالروح البيضاء «الكاديلاك»/ والروح السوداء «الكاديلاك»/ وحشروه في مؤخرتي وفي منخريّ وفي أذنيّ/ وأنا أقول الشيوعية، الشيوعية/ فكشّروا وعلموا أني لم أكن أقصد».
ما من وصفات جاهزة لتتبع مسيرته الأدبية. هناك ما يمنع من اتباع نقد صارم. أدبه أشبه بمزحة قاتلة تقود إلى انغماس كامل للفن في الحياة، والحصيلة سجل هائل من الحيوات والمشاهدات، من القصص التي تمتزج بالشعر والعكس صحيح. معه تمسي الرداءة أجمل ما قامت به الإنسانية، والفشل معبراً أكيداً إلى الحقيقة. هو كما هوسه برهانات الخيل، يؤمن بأن عليك أن تراهن وتكسب لأن أي سافل قد يكون خاسراً جميلاً.
كُتب بوكوفسكي الخمسون ليست إلا حياته على دفعات. والده الذي كان يضربه ليل نهار، حاضر دوماً. حين مات، قال عنه «لقد مات شكراً لله». أمه لا تعني له شيئاً، وكل النساء لديه شبيهات بجين كوني أول امرأة وقع عليها، وكان ما إن يفارقها، حتى تكون في سرير رجل آخر. كتب عنها أجمل قصائده، وحين ماتت «منهوشة بالسرطان»، أراد إعادتها إلى الحياة كسمكة في حوض أسماك. أما زوجته الناشرة بربارا فراي، فقد كانت «من دون رقبة» ولقّبها «المليونيرة». وتحضر في النهاية ليندا لي آخر نسائه التي سدد لها ركلة لعينة أثناء لقاء تلفزيوني.
شاعر التستوستيرون المتأجج قادر على أن يكون برقّة فراشة. يحمل مرآة كبيرة ليعكس كل ما هو عابر فيمسي خالداً. ينجح ـــــ تحديداً في شعره ـــــ في تغييب الخطوط الفاصلة بين النقاوة والبذاءة، بين الرقة والقسوة، وكل شيء بإفراط، ودوافعه كامنة في «القرف والفرح» حسب تعبيره، و«الفرق بين شاعر جيد وشاعر رديء هو الحظ».
غياب الخطوط الفاصلة يمتد إلى ما بين الأصناف الأدبية التي كتبها. المحاولات المضنية التي تكبدها كتّاب سيرته، بدت لا شيء أمام أدبه الذي يأتي بيوغرافياً دوماً، لعلّ أهمها «تشارلز بوكوفسكي: محبوساً بين ذراعي حياة مجنونة» للإنكليزي هاورد سونس.
في روايته Ham On Rye المتأثرة برواية سالينجر «الحارس في حقل الشوفان»، نجده يتكلم عن عائلته: «لا يبدو أن هؤلاء الأشخاص سعداء سوية. كانت إيميلي جدتي أم أبي. اسم أبي كان هنري. أمي اسمها كاثرين. لم أخاطبهم بأسمائهم، كنت هنري الصغير. هؤلاء الأشخاص يتكلمون الألمانية معظم الوقت وأنا كذلك في بداية الأمر. أول ما أتذكره مما كانت جدتي تقوله كان «سأدفنكم جميعاً»».
تمرُّد بوكوفسكي وجنونه آتيان من مراهقة انطوائية محاصرة بحبّ شباب غزا وجهه. وجد في القراءة والاستمناء كل عالمه، ومكتبة لوس أنجليس العامة ملاذه حيث راح ينغمس بدوستويفسكي وهمنغواي وسيلين، ويلتهم كل ما يقع عليه، إلى أن قرأ رواية جون فانتي «اسأل الغبار» التي كانت نقطة تحول في حياته. وجد نفسه في بطلها ارتورو بانديني، بينما أحداثها تجري في «بانكر هيل»، وهو مجمع سكني لا يفصله سوى شارع عن المكتبة التي كان يقرأ فيها بوكوفسكي.
تتّبع حياة بوكوفسكي جنباً إلى جنب مع أدبه، هو المدرسة النقدية الوحيدة التي ينصح بها لدى تناوله، كالقول إنه واصل الكتابة لئلا ينتحر. هو لم يسمع «عواء» آلان غينسبيرغ، ولم يجد في «على الطريق» جاك كيرواك إلا ما يمتهنه، متنقلاً من ولاية إلى أخرى. مع ذلك، يمكن لطيف هنري ميللر أن يحوم في أرجاء أعماله من دون استسلام بوكوفسكي لأي غوايات فلسفية وتاريخية.
بوكوفسكي شاعر القنينة. كان الكحول بالنسبة إليه كالحليب للرضيع. كتب بوصفه ساعي بريد، أو عاملاً في مسلخ، أو سائق شاحنة وغيرها من مهن كثيرة عمل بها. وحين بلغ شهرته في الخمسين، راح يمضي خلف رفاهية هبطت عليه من حيث لا يدري. مع ذلك، بقي التكلف الفني عدوه بوصفه «السمة المضجرة التي أوشكت على تدمير الفن طوال قرون»... وإن كان والت ويتمان كتب «أغنية نفسي»، فإنّ كل ما كتبه بوكوفسكي هو أغنيةُ نفسِه المحبة والناقمة، الجامحة والمروضة في مواجهة عالم رديء كان صديقنا يجابهه باللكمات والعناق في في آن واحد.

(مختارات شعريّة مترجمة لبوكوفسكي مع هذه المقالة على موقع «الأخبار»)




سيرة

في 16 آب (أغسطس) 1920، أبصر تشارلز بوكوفسكي النور في أندرناخ في ألمانيا. كتابه الأول «يوميات عجوز مقرف» (1969) كان عبارة عن قصص صغيرة ومذكرات، حقّق له الشهرة، فاستحقّ اعتراف جيل «البيتنيكس». مع ذلك، بقي الشاعر الأميركي يرفض تصنيفه ضمن هذا التيار. عام 1966، كان جون مارتن قد أسّس دار Black Sparrows Press بنية نشر الكتّاب الطليعيين، وأولهم بوكوفسكي. هكذا، ارتاح هذا الأخير من مهنة ساعي البريد، وكرّس وقته للكتابة. وكانت خلاصة تجربته تلك قد تجلّت في روايته «مكتب البريد» (1971) التي وصف فيها يوميات موظّفي البريد. تلاه عام 1977 كتاب «نساء»، رواية بورنوغرافية شبه أوتو ـــــ بيوغرافية تسرد علاقاته مع النساء. نال حفاوة كبيرة في فرنسا، ونقل ماركو فيريري روايته «قصص الجنون العادي» إلى السينما. منزله في لوس أنجليس تحوّل متحفاً عام 2008، بعد 14 عاماً على رحيله.