إلى الإخوة الأعزّاء الذين تلقّوا خبر تضامني مع انتفاضة الشعب السوري عبر وسائل الإعلام:كفى! حسبنا خضوعاً «للنمذجة» وتكراراً للخطابات المُقولبة! ألم يبق في لبنان حيّز للفكر المستقل؟ ألم يبق في أدمغة اللبنانيّين خلايا تشتغل خارج الدارتَين المحتكرتَين وسائل الإعلام في بلدنا؟ هل توقّف التاريخ عندنا بين ٨ و١٤ آذار؟ ألا يحقّ للمرء في لبنان أن يستنكر القمع الإجرامي الذي يُمارَس على الشعب السوري، وأن يتضامن مع ثورته دون أن يُصنّف في هذا الخانة السياسيّة أو تلك؟

إذا شجبتُ مجازر الاتّحاد السوفياتي فهل يعني ذلك أنّني معادٍ للشيوعية؟
وإذا استنكرت جرائم النازيّة، فهل يعني ذلك أنّني صهيوني؟
وإذا ندّدت بسحق الحكومة الصينيّة للمعارضة، فهل يعني ذلك أنّني عميلٌ للإمبرياليّة الغربيّة؟
وإذا أعلنت تأييدي للمقاومة ضدّ إسرائيل، فهل يعني ذلك أنّني منتم إلى حزب الله؟

■ ■ ■

على سبيل التذكير (لمن لا يعلم، أو لم يعد يتذكّر) هذا هو النصّ الذي كتبناه أثناء «حرب تمّوز»:
«نحن أفراد مثقّفون وفنّانون وطلّاب وتقنيّون وناشطون اجتماعيون، مسيحيّون، مسلمون، دروز، أرمن، مؤمنون وغير مؤمنين... نطالب بحقّنا في استنكار العدوان الإسرائيليّ الإجراميّ على لبنان، والموقف الجائر الذي جهرت به الدول الغربيّة، والسكون المتواطئ الذي تلتزمه الدول العربيّة، والمسلك المنافق الذي يعتمده الإعلام الدولي. نشعر بأنّنا في سلام عميق وحرّيّة داخليّة بالغة. لا ندين لأحد بأفكارنا وآرائنا. لا تصدر كرامتنا من سوريا أو إيران أو السعودية أو فرنسا أو أميركا أو الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة. بل تتجذّر في البشريّة المحتقرة التي يسحقها العالم الحرّ المزعوم، وتُستثنى من «حقوق الإنسان» التي تُصدر قانونها الدول الكبرى...
نحن بخير، ماذا عنكم؟»
(بيروت ــــ 15 تمّوز/ يوليو، 2006)

■ ■ ■

الجريمة جريمة أيّاً كان مرتكبها.
القمع في سوريا يُدان مهما كانت تبريراته.
أمّا في ما يخصّ التحليلات السياسيّة والتفسيرات المتباينة بشأن صحّة تفكير وتصرّف هؤلاء أو أولئك، وبشأن المصير المنتظر من هذه السياسة أو تلك، فاسمحوا لي بأن أعبّر عن شكوكي في كلّ الأحزاب، وكلّ الحكومات من دون استثناء... وبأن أكون متواضعاً أمام عظمة الأحداث التي تثير الحماسة والقلق في آن واحد، وتفضح قِصر نظر جميع القادة والحكومات في العالم العربي، وعجزهم عن الإصغاء إلى شعوبهم، وإدراك قواهم الروحيّة الحقيقيّة. (على سبيل المثال أشير إلى القصور في إدراك، ومن ثمّ تقويم، الدور العظيم الذي قام به الشعب اللبناني في التصدّي للعدوان الإسرائيلي سنة 2006، وقد أنزل بالعدوّ هزيمة معنويّة كبرى، لكنّه لم يُستمثر بعدئذ في بناء دولة عادلة لجميع أبنائها، على أسس جديدة، على أنقاض النظام الطوائفي اللبناني).
أمّا اليوم، فأنا مؤمنٌ إيماناً راسخاً، بأنّ تقوّض أساسات إسرائيل آتٍ بفعل هذا المدّ العربيّ الجميل الذي يبتدع مصطلحاته ومبتغياته، بلا زعيم ولا تنظير، ويستمدّ تعبيراته من أعرافه الثقافيّة وآدابه الأخلاقيّة المدنيّة والدينيّة، بلا خجل ولا مراعاة للعقليّة «الحضاريّة» الغربيّة، أو للذهنيّة التقدّميّة اليساريّة. بل يعبّر عن رغبات عميقة تعني كلّ إنسان على وجه الأرض.
تقولون أليست الانتفاضات العربيّة الراهنة مختلفة بعضها عن البعض الآخر؟ أقول بلى.
تقولون أليست الأنظمة العربيّة متباينة في سياساتها ومواقفها من أميركا وإسرائيل؟ أقول بلى.
تقولون أليست هذه الحركات الشعبيّة غير متجانسة في داخلها وتحتوي تيّارات متناقضة في الدوافع والأهداف؟ أقول بلى.
غير أنّني على يقين أيضاً بأنّ كلّ حركة شعبيّة في كلّ قطر عربي (على اختلاف الظروف والمعطيات بين هذا البلد وذاك)، تعني وتُدرك الإنسان في كلّ الأقطار الأخرى... فيما الأنظمة العربيّة (المتباينة) وأجهزتها (المتشابهة) لا تعني ولا تُدرك إلّا ذاتها. لذلك فإنّ شرعيّتها التاريخيّة سقطت وقدرتها على مواجهة إسرائيل تلاشت.
كم هي تافهة الإشكاليّات التي تفرّق بين اللبنانيّين! كم هي مُخزية المعارك التي تُقابل طائفةً بالأخرى، اعتباراً من مركّبات انتقاها القادة لأنفسهم. كم هي تعيسة الأحياء المعزولة التي تُظهر للملأ هويّاتها الضيّقة. «في بلد حيث تكون المؤسّسات ديموقراطيّة بالشكل لا بالفعل، وحيث النظام المدني لا يخضع للقانون، بل ينصاع للمحسوبيّة، ولا يصون الحقوق، بل يتنازل عنها ويحوّلها على همّة زعماء الطوائف، من السهل جدّاً أن تُصبح الانتماءات المختلفة عوامل من عوامل الفتنة والفساد، وأن يُجيَّر الخطاب التاريخي وفقاً لخيارات أيديولوجيّة انتقائيّة. ألا يُخجلنا أن نرى شعوباً عربيّة تشهر هويّةً لا حدود لها وتتّسم بمزايا الإنسان الثائر على كلّ أشكال الظلم والتمييز؟ ألا تسخفّ نزاعاتنا الطائفيّة وشقاقاتنا الحزبيّة مشاهدة الملايين الذين يعبّرون عن رغبات عميقة تعني كلّ إنسان على وجه الأرض؟» (من مقالة بعنوان «أحلام اليقظة» كتبتها في مجلّة «الطريق» أيّار/ مايو 2011).
ألا تستحقّ الأمور أن نقف على مستوى التفكير، بلا قيد ولا رأي مسبق؟ أن نتجرّأ ونتواضع في آن واحد، ونصالح عقلنا مع شعورنا... ونهدي دقيقة للذين قُتلوا في سوريا، على ألّا تكون دقيقة صمت أبداً!
بيروت ــــ 10 / 08 / 2011
* مسرحي لبناني