بعيداً عن صخب «المليونيات» ومظاهر الثورة المستمرة على أرض مصر، لا يزال النيل الهرم يحتفظ بهدوئه. هناك حياة خاصة وإيقاع مستقلّ لمياهه المنسابة منذ آلاف السنين بين غابات الأسمنت المتزايدة في المحروسة. على تخومه، يتوقف الزمن، وتنشأ لحظة فريدة تتضافر باقي العناصر لتأكيد فرادتها: هنا، للضوء سطوة كبرى. لقلة الأشكال نكهة خاصة، وللأفق المسطّح معنى يتجاوز الفراغ الذي يشي به.
في ذلك الفلك، تدور أعمال المصوّر الألماني ألغر إسير (1967) التي تحتضنها «غاليري صفير زملر» حتى 29 تشرين الأول (أكتوبر) تحت عنوان «رحلة في مصر».
فلكٌ تزدحم فيه مفردات البحث عن الزمن المفقود، ويحاكي بطريقةٍ ما المعرض الآخر الذي يستضيفه الغاليري بالتزامن معه. في «صور من الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر» من مجموعة هرتزوغ، بازل، تظهر بالأبيض والأسود وجوهٌ ومدنٌ خارج الزمان والمكان، تحقّق بروحها الشاحبة المنسيّة انسجاماً مشهدياً متّسقاً مع صور ألغر إسير.
الفنان الذي تتلمذ في ألمانيا على أيدي المصوّرين الشهيرين بيرند (1931 ـــ 2007) وهيلا (1934) بيشير، تأثّر بمدرستهما التي ترتكز على تصوير مبانٍ وفضاءات ومؤسسات صناعية مهجورة في معظم الحالات. إنّه يبحث عن الجمال في أكثر الأماكن غرابة واقفراراً، أكان ذلك قناة مياه ملوّثة أم حقلاً يحتضن سيارة محطمة منسية.
هناك إجماع نقدي على أنّ أعمال المصوّر الألماني شاعرية وكئيبة تحيل دوماً على رائعة مارسيل بروست «البحث عن الزمن المفقود». وهو غالباً ما ينزع صفة المكان والزمان عن موضوع صورته، ليخلق بدلاً منهما حساً نوستالجياً في الصورة.
في «رحلة في مصر»، يحاول ألغر إسير التقاط الزمن المنساب بشجنٍ مع مياه «بحر النيل». يمتنع عن الإفادة من تقنيات الـ«فوتوشوب» ولا يستخدم أي كاميرا رقمية. تلتصق كاميرته بالواقع في صورة تحاكي لوحة تشكيلية. في الصور الملوّنة التي التقطها خلال قيامه برحلة بين مدينتي الأقصر وأسوان في نيسان (إبريل) 2011، هناك مينيمالية في الأشكال واقتصادٌ في جميع عناصر الصورة باستثناء الضوء، إذ إنّ الضوء الذي يغرق فيه النيل طبيعي، تحكّم ألغر إسير فيه من خلال اختياره لمواقيت التصوير بدقة. هو مبهرٌ، يغطي الصورة بأصفر يصل أحياناً إلى درجة البياض الذي يصهر الجماد الظاهر من نخيل ومنازل مع أفق لامتناه. والخلاصة أنّ الصورة تبدو كتلة من النور.
في تلك الكتلة مجال مسطّح يعزّز انبساطه اقتصادٌ في الأشكال العمودية. حتى إنّ بعض المنازل وأشجار النخيل التي تظهر في الصورة، لا تعكّر صفو الفراغ المسيطر، لأنها تبدو قليلة وصغيرة في المشهد. وحتى إذا ظهرت كتلة أسمنتية كثيفة في إحداها، فبسحرٍ ما تبدو ضئيلة أمام مشهد المياه العميقة والمترامية. النيل هو بطل المشهد من دون منازع في صور ألغر إسير. يتآخى مع المركب الشراعي الذي يجوبه، بينما يتنافر في مفارقة مشهدية مع باخرة سياحية عملاقة تنخر عبابه. إنّه العنصر الأبقى والأزلي، حافظ الأسرار وصاحب حياة له وحده. كأنّنا بالمصوّر الذي تحتضن أعماله متاحف شهيرة كغوغنهايم في نيويورك ومركز بومبيدو في باريس، يبحث في المنطقة الملتهبة التي تغلي حراكاً اليوم عن سكينة أبدية يذكّرنا بها: النيل يجري منذ آلاف السنين، رغم كل شيء...

«رحلة في مصر»: حتى 29 تشرين الأول (أكتوبر) ــــ «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا/ بيروت). للاستعلام: 01/566550 ــــ www.elgeresser.com



فتّش عن الأدب

خلال معرض أقيم لألغر إسير في شتوتغارت (جنوب ألمانيا) عام 2009، وزّع كتيّب على الحضور جاء بمثابة دليل لمقاربة عميقة وفهم أفضل لأعمال الفنان المليئة بالإحالات الأدبية والروائية. هكذا، ضمّ الكتيّب صوراً وأبحاثاً تناقش دور الأدب في صور الفنان الألماني. ومرّ الكتيّب على أسماء معروفة مثل مارسيل بروست، وغي دو موباسان، وسيز نوتبوم، وكيفية حضور هؤلاء في أعمال إسير.