أحياناً أفكّر أن خالد هرب من «الأخبار» كي يرتاح من «إيميلاتي». طوال سنوات، أخضعت علبة بريده الافتراضيّة لقصف مركّز. لم يكن بوسعه الإفلات من مطوّلات ـــ غنائيّة غالباً ـــ تراوح بين الاقتراحات والشكاوى والسجالات والتنظيرات والاعتراضات... وطبعاً الانتقادات التي قد تتعلّق بافتتاحيّة لإبراهيم الأمين، أو بخبر في زاوية «علم وخبر»، أو بخطأ لغوي... وصولاً إلى أبسط المشاكل الإداريّة أو التقنيّة التي تعرفها كلّ المؤسسات. كنا معاً نطلب الكثير من الجريدة التي منحناها أوهامنا في هذا الزمن النغل، فاحتضنتها وأخصبتها وجعلتها ممكنة في واحدة من أعاجيب الصحافة اللبنانيّة والعربيّة النادرة الحدوث. وكان خالد أقرب شخص إليّ، شأني في ذلك شأن كثيرين أوّلهم إبراهيم، رأوا فيه دينامو هذا المشروع المهني الطليعي، النقدي والتعدّدي الذي يحتفي بالاختلاف ويراهن على الانفتاح، من دون أن يهادن في خياراته: تحرير الأرض والإنسان. مواجهة الاستعمار على أشكاله، والمضي قدماً، في العالم العربي، على طريق التقدّم والديموقراطيّة والعدالة والعلمانيّة ودولة القانون والمجتمع المدني. كنتُ «حنبليّاً» في تمسّكي بالسقف العالي الذي وضعناه مع جوزف، سنوات قبل انطلاق «الأخبار». لذا فإن أبسط خطأ أو تقصير كان يبدو لي نهاية العالم، ويدخلني في حالة من الانهيار العصبي، والخوف على المشروع الذي تماهينا معه حتّى بات صنواً لوجودنا. هكذا صار خالد مع الأيّام كبش فداء وحائط مبكى، وبات من مهمّاته الوظيفيّة أن يهدئ من روعي عند كل «كريزة» جديدة. كان من جهته يفضّل المواجهات المباشرة، ويضيق ذرعاً ـــ سامحه الله ـــ بمراسلاتي الإلكترونيّة التي لو جمعناها الآن، لبدت تأريخاً للحلم في ارتطاماته بصخور الواقع. فنحن لم نغفل يوماً التعقيدات والتناقضات الكثيرة، الملازمة حكماً لمشروع مركّب هو ابن واقع تاريخي وسياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي. هذا الواقع، علّمنا الملتحي الأكبر أن نخوض في وحوله، أن نتعامل معه ونراهن على ديناميته، لا أن ننظر إليه من عل ونحن نسدّ أنوفنا، ونحتجّ لأنّه لا يتطابق مع تصوّراتنا.
ثم جاءت الهزّة الكبرى، لتجعل من إدارة هذه التناقضات أكثر صعوبة، خصوصاً أن اللبنانيّين ينظرون إلى تاريخ الشعوب من الثقب الضيّق لمصالحهم وعصبيّاتهم. أما الأفكار المركّبة التي رفدت «الأخبار»، فتواجه الآن امتحاناً حقيقيّاً، أخلاقيّاً أوّلاً، وسياسيّاً في كلّ الأحوال، على وقع صراخ الناس في الشوارع السوريّة. لقد بات هامش المناورة أضيق بين مزايدات «هربرت ماركوز الليبراليّة» من جهة، وابتزازات «غوبلز الصمود والتصدّي» من جهة أخرى. لكن هل يغيّر ذلك شيئاً في المبادئ التي لا معنى لـ«الأخبار» من دونها؟ ابتعاد خالد الذي نريده موقتاً، يعلن المأزق، ويطرح التحدّي على الذين اختاروا البقاء في مكانهم الطبيعي. لذا، بالإذن من زميلنا الحبيب الذي عمل بما تمليه عليه حريّة ضميره (مع تيقّني من أن خالد ليس رومانسيّاً ولا يبحث عن دور البطولة)، أقترح أن يكون التضامن أيضاً، مع الذين اختاروا مواصلة النضال، المهني والسياسي، من داخل «الأخبار»... من أجل أفكار خالد صاغيّة، وفي انتظار عودته. أعده منذ الآن أنني لن أكتب له إيميلاً واحداً!