طبعاً هي ليست قضية الفساد الأولى في بلدٍ استحكمت المحسوبيات في مفاصل إدارته، واستفحل الهدر في وزاراته. لكن ثمة فرق بسيط هذه المرة: هناك كتابٌ يوثّق بالأرقام والوقائع المخالفات المالية الجسيمة التي ارتُكبَت في وزارة الثقافة تحت مظلة «بيروت عاصمة عالمية للكتاب ــــ 2009». وقّعت الكتاب المنسّقة العامة السابقة للمشروع، الروائية ليلى بركات، في شباط (فبراير) الماضي، وحمل عنوان «الفساد: المديرية العامة للثقافة، دراسة حالة من الفساد المستفحل في الإدارات العامة». تفاعلت القضيّة خلال الأشهر الماضية، إذ ادّعت النيابة العامّة أمام ديوان المحاسبة على المدير العام لوزارة الثقافة السابق عمر حلبلب وموظفين آخرين بتهمة «إكساب أو محاولة إكساب الأشخاص الذين يتعاقدون مع الإدارة ربحاً غير مشروع» المنصوص عليها في المادتين 60 و61 من تنظيم الديوان («الأخبار»، 4 تموز/ يوليو 2011). ثم دخل الادّعاء، على ما يبدو، في ما يشبه الموت السريري.
لكنّ نخبة من العاملين في الحقل الثقافي قررت أن تنطلق من هذه السابقة لتفتح نقاشاً واسعاً في ملفّ هدر أموال اللبنانيين، والميزانية المرصودة للثقافة في لبنان. وجّه هؤلاء الناشطون رسالة في 6 آب (أغسطس) الحالي إلى رئيس ديوان المحاسبة القاضي عوني رمضان يسألونه عن سبب التأخير في تحريك الادّعاء، وكانت النتيجة أنّهم تلقّوا اتصالاً من أحد قضاة الديوان يبلغهم باسم رئيسه أنّ «القضية ستحال على المحاكمة في وقت قريب جداً»، عازياً تأخّرها إلى «طبيعة عمل القضاء التي تحتاج دائماً إلى وقت». لكنّ ذلك الرد لم يبدُ مقنعاً للمجموعة التي تقود التحرّك من أجل إلقاء الضوء على ممارسات الإدارة في ما يتعلّق بالشأن الثقافي. هكذا أصدرت المجموعة، وتضمّ مبدعين ونقاداً وإعلاميين ومثقفين، رسالة ثانية موجّهة إلى الديوان، عبّر فيها الموقّعون عن اقتناعهم بـ«عدم وجود مبرّر قانوني لتأجيل إحالة الملف على المحكمة». وفي الاتجاه نفسه، قرّروا تنظيم لقاء تشاوري مساء الجمعة 26 الجاري، في «مسرح بيروت»، بهدف مناقشة الخطوة المقبلة للتحرّك.
«سنبتّ نوع الخطوة المقبلة خلال اللقاء. لكنّ طيف التحركات واسع: قد نتوجه إلى الإعلام عبر عقد مؤتمر صحافي، وقد نقيم اعتصاماً أمام مقرّ ديوان المحاسبة، كما أنّنا قد نستفيد من الإنترنت لاستقطاب العدد الأكبر من الناشطين لترويج القضية»، يقول الناشط في الحملة جنيد سري الدين. وينزع الممثل والمخرج المسرحي عن التحرك أي صبغة سياسية (بالمعنى اللبناني الضيّق للكلمة): «أفراد المجموعة لا يتقاسمون التوجهات السياسية ذاتها. ما يجمعنا هو فقط هاجس استقلالية القضاء، وتصويب علاقة المثقفين بوزارتهم».
ولا يستبعد الناشطون أن يكون تأخّر الديوان عن التحرّك عائد إلى «ضغوط سياسية ترمي إلى حماية موظفين من الدرجتين الأولى والثانية محسوبين على جهات معينة»، كما يشرح سري الدين. ويعزو الأخير إصرار العاملين في الحقل الثقافي على التحرك في هذه القضية إلى عوامل عدة أهمها «الإفادة من قضية فساد ناضجة قانونياً، تتوافر فيها القرائن، للمباشرة في عمليّة محاسبة، قد تفضي لاحقاً إلى التئام ذلك الشرخ الأزلي بين المثقفين ووزارتهم في لبنان».
على خلاف ما قد يوحي به للوهلة الأولى، لا يحمل ذلك الموقف حسّاً انتقامياً أو كيدياً، بل عتباً عابراً، كما تلمّح عايدة صبرا. تقول الأكاديمية والممثّلة المعروفة: «نحن في بلد يدّعي التحضّر، بينما الفساد ينهش مؤسستنا محمياً بأيادي السياسة المخملية. ويجب ألا يستمر هذا الوضع. علينا أن نتحرك. يجب أن نبدأ من مكان ما. وحريّ أن تكون وزارة الثقافة هذا المكان، لأنه لا يمكن أن يطول هذا البعد بينها وبين المثقفين». مثل الكثير من زميلاتها وزملائها، تنظر صبرا بعين النقد إلى «الغموض وقلة الفاعلية» اللذين سيطرا على نشاطات «بيروت عاصمة عالمية للكتاب». «كانت تلك المناسبة تمثّل لنا فرصة للقيام بمشاريع كثيرة، لكن الفساد والهدر وقلة الشفافية حالت دون ذلك. حرام!». وهي تأمل أن يغلب القانون السياسة هذه المرة.
بالمرارة ذاتها، تعبّر المخرجة السينمائية رين متري عن أسفها للفرصة المهدورة التي كان يحملها إعلان «بيروت عاصمة عالمية للكتاب». رائحة الفساد كانت تفوح أصلاً من تلك الاحتفالية، بمظاهرها المتنوعة، من مشاريع ونشاطات، فكيف بعدما ثبت الفساد بالقرائن؟ «علينا أن نتابع الحملة المركزة، لأنّها المرة الأولى في لبنان التي لا نتحدث فيها عن فساد بالمطلق ونتأفف منه، بل عن قضيّة ملموسة. هذه المرة هناك ملفّ واضح، وقرائن يجب الإفادة منها، لأنّ ذلك سيمثّل حتماً قوة رادعة لآخرين في المستقبل».



غرائب وعجائب

في «الفساد: المديرية العامة للثقافة، دراسة حالة من الفساد المستفحل في الإدارات العامة»، فنّدت ليلى بركات المنطق الخطير الذي تحكّم في تظاهرة «بيروت عاصمة عالميّة للكتاب ــــ 2009». يحتوي الكتاب على وثائق مذهلة، بغض النظر عن الجدل المثار بشأن مؤلّفته، لكونها كانت جزءاً من المعادلة يومذاك. تكشف بركات كيف أن المحسوبية، واستغلال النفوذ، والرشوة، وهدر المال العام، أدّت دوراً في كواليس التظاهرة. وقد تبيّن للنيابة العامة أن أموال المشروع تتألف بمعظمها من مساهمات مقدّمة من الدولة اللبنانية (وزارة الثقافة) بقيمة 7 مليارات ليرة لبنانية، ومساهمة من بلدية بيروت بقيمة 1،5 مليار ليرة. ومن المخالفات الفاضحة استحداث مركز لكتب الأطفال في العالم العربي، تبلغ كلفته أكثر من مئة ألف دولار، وقد تضمّن 30 ألف دولار لترميم طلاء الطابق الأرضي في الوزارة، و50 ألف دولار لشراء رفوف وطاولات، بينما خصص لشراء الكتب مبلغ 25 ألف دولار.