فؤاد خوري (١٩٥٣) ماهر في إعادة إنتاج كليشيهاته القديمة، عبر شبكة من الخطوط المتوازية أو المتقاطعة. هذا ما فعله في معارض سابقة مثل «ماذا حدث لأحلامي؟» أو «تلك لم تعد بيروت». لكنّ معرضه الحالي في «مركز بيروت للفنّ»، يذهب أبعد من ذلك. «لي... مكان» ليس معرضاً استعاديّاً بالمعنى المتعارف عليه. إنّه إعادة كتابة، لمسيرة فنيّة عمرها أربعون عاماً، في سياق متعدد المستويات، لا يشكّل البعد الكرونولوجي سوى واجهته الظاهرة. إنّه رحلة في حياة فؤاد خوري: العصر الذي كان ولا يزال شاهداً عليه، الحروب التي عاشها، الوجوه التي سكنته، القضايا التي أفلتت منه. متتاليات بصريّة مجبولة بالفضول والندم والأسئلة والأحزان. مشاهدات صامتة إلا من ندوب وخربشات وظلال.
أعماله المعروضة حالياً في بيروت، من حقبات مختلفة، بالأسود والأبيض غالباً، مصنّفة حسب مواضيع وتواريخ وأمزجة بيوغرافيّة. حكايات تائهة، يجمع بينها هاجس الانتماء إلى المكان. أي مكان؟ بيروت مدينة الغربة الدائمة؟ باريس الملجأ المؤقت الذي يدوم؟ القاهرة ديكور الأوهام الجميلة؟ إسطنبول عاصمة الإمبراطوريّة الضائعة؟ القدس المحتلّة التي فيها بعض من هويّته المعذّبة؟ برلين حاضنة جراح التاريخ؟ فؤاد في النهاية يتيم الأمكنة (عنوان المعرض بالإنكليزيّة Be... longing). ما قد يفسّر تسكّعه الأبدي بين المدن بحثاً عن عزاء. إنّه مشّاء المدن، يحنّ إلى الإمبراطوريّات القديمة، والحضارات البائدة. يهرب باتجاه جراح حميمة لا يعرفها سواه، كما في فيلمه «رسائل إلى فرانسين» (٢٠٠٢). كأنّه يقف على أنقاض عالمه الأرستقراطي المنهار. يحمل على ظهره مدينته الممزّقة يتأمّل ناطحات السحاب النابتة كالفطر في مدن الملح، يكثر من تصوير الآثار، يرنو إلى فلسطين. يهيم على وجهه، عند ضفاف النيل أو البوسفور أو السين، بحثاً عن الزمن المفقود. أعماله محطّات متصلة في حكاية ذاتيّة طويلة. مشاهداته التي تبدو محايدة، تختزن في النهاية مساراً شخصياً، في الهامش المنسي، أو عند الشرخ.
في البدء كانت بيروت. تعرّف إليها في زمن الحرب، حين جاء الباريسي الشاب إلى مدينته التي لا يكاد يعرفها، مراسلاً لوكالة «رافو». كان ذلك في عام ١٩٨٢، عشيّة الخروج الكبير الذي عاشه على باخرة Atlantis مع ياسر عرفات (عرض ديابوراما). لكن مجلّة «باري ماتش» لم تنشر الريبورتاج، بسبب موت غريس دو موناكو. إلى تلك المرحلة تعود صور الخراب الصامت، والمتاريس والبراميل وخطوط التماس. لعنة بيروت لم تفارقه منذ ذلك اليوم، لم يتوقّف عن تصويرها، من الهامش نفسه. من الزاوية الساخرة، المحتجّة التي توازي بين مشهد العلم اللبناني المنخور بالطلقات والشظايا، وصبايا منتجع Portemilio بالبيكيني في ذلك الكليشيه الشهير الذي يعرف الجميع قصّته.
بيروت ١٩٩٠، مرحلة ثانية مهمّة في مسار فؤاد خوري. انتهت الحرب (أو هكذا تراءى لنا)، وظلّ هو يبحث عن آثارها في الفضاءات الفارغة، بين الركام وفوق الجدران المتصدّعة. كان ذلك عشيّة مشاريع الإعمار التي لن يتوقّف عن مساءلتها. انتهت الحرب، لكنّها بقيت عالقة هنا، لم يشفَ منها أبداً. (سيستعيدها خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز ٢٠٠٦، في مشروع استثنائي بعنوان «عن الحرب والحبّ»). وهنا في الـ BAC، نقع على بصماتها في كل مكان، ليس فقط في العرض الكرونولوجي على الجدار الطويل، بل في كل ما التقطت عدسته عبر العالم. يحمل الحرب كالخطيئة الأصليّة في زمن التحولات والانهيارات والقضايا الخاسرة، ويبحث عنها حتّى في اللحظات الهاربة من الكاميرا.
ذلك الحزن الذي يخيّم على صور فؤاد خوري يختصر علاقته بعالم عند الغروب، بالمعنى الفيسكونتي للكلمة. لقطة مهزوزة في حماه لفتاة تعبر الشارع، أو في غزّة في المقبرة. هناك غشاء يغلّف المشهد. الميت المسجّى بكامل أناقته. مرأب قطارات في هنغاريا تنبعث منه وحشة فظيعة. الصبي ذو الكوفيّة في غزّة. الميليشيوي الذي شاهدناه في معرض آخر يلعب الورق، موجود على لوحات الكونتاكت الصغيرة. دائماً تلك الفضاءات الفارغة. مساحات شاسعة تضيع فيها حافلة صغيرة في الأرجنتين. صبي في المقصورة بين إسطنبول وأنقرة. التماثيل المقلوبة في لشبونة، وأمواج الإسكندريّة، ومدخل السينما المترهّلة في القاهرة.
وهناك مصر طبعاً، جاءها مرّة على خطى فلوبير ثم لم تغادره بعد ذلك. مصر تشكّل جزءاً أساسيّاً من عالمه، بمقاهيها وآثارها وناسها وشوارعها، ومشاهد من حياتها اليوميّة، وصولاً إلى لقطات من ٢٥ يناير. مصر بكتّابها وفنانيها. لا بد للزائر أن يتوقّف مليّاً أمام بورتريهات صنع الله إبراهيم أو توفيق الحكيم أو أندريه شديد تتطاير من حولها الأوراق. أو رشيد الضعيف، ماذا يفعل بين هؤلاء المصريين؟ أو شريهان، وحدها في قاعة سينما بين المقاعد فارغة. هناك أيضاً فلسطين، تسكن وجدانه كأنّها قصّة شخصيّة، ودبي رمز العمران الذي يستند إلى خواء.
لا بد من التوقّف أيضاً عند أنقاض سينما «أوبرا» في وسط بيروت، قبل أن تصبح متجراً كبيراً للأسطوانات. هناك أيضاً معطف الفرو المنشور في العراء على حبل غسيل، في مزرعة في إيطاليا. شاشة كمبيوتر عليها رسالة بالفرنسيّة إلى امرأة هُجرت. مشهد «خارجي ليلي» في أحد أزقّة القاهرة... تطول القائمة. لكن الصورة التي يحتفظ بها المرء هي أن العالم خربة هائلة، وأنّه يسير وحده بصمت بين المشاهد الرماديّة والسماء المتلبّدة، تطنّ من حوله كلمات في لغات لا يعرفها. فيما شخصيّات صغيرة تكمل طريقها بصمت إلى وجهة غير محدّدة.



«لي... مكان» Be... longing :حتّى 1 ت١/ أوكتوبر ٢٠١١ ــــ «مركز بيروت للفنّ» (جسر الواطي/ بيروت). للاستعلام: 01/397018