ليس جديداً على كمال الصليبي كتابة التاريخ عبر جغرافيا اللغة والمكان، وآخر إصداراته عن «دار نلسن» ليس إلا ترسيخاً لهذا المنحى وتتويجاً له. ينتمي الصليبي إلى جيل أحدث ثورة حقيقية في مناهج التأريخ، ويمكن اعتباره من المؤرخين الذين عاينوا الأحداث والوقائع عبر رصد التفاصيل، والبحث الأركيولوجي عن مجريات تاريخية بدت بمثابة الانقلاب في نظر كل الذين يعتمدون الرواية الرسمية.
«الموارنة ـــ صُورة تاريخية»، أحدث إصدارات الراحل عن «دار نلسن»، هي عبارة عن دراسة كُتبت عام 1969 وعادت الى الضوء بعد أكثر من 40 عاماً. فيها يقدّم صاحب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» بانوراما خاطفة عن تاريخ الموارنة في لبنان، بدءاً من هروبهم من وادي العاصي، وصولاً الى تحقيق الحلم الماروني بإعلان دولة لبنان الكبير عام 1920.
يبدأ الصليبي دراسته بتعقب نشوء الموارنة كطائفة في وادي العاصي، أي في حمص وحماه. ويؤكد صاحب «البحث عن يسوع؛ قراءة جديدة في الأناجيل» أن نزوح الموارنة الأوائل من وادي العاصي الى الجزء الشمالي من جبل لبنان، مرده الى الهرب من «جور الروم» بسبب الخلاف العقائدي معهم حول طبيعة المسيح. استقرار الموارنة في جرود لبنان الشمالي أدى الى عزلتهم عن العالم الخارجي، وترافق مع طرد الخلفاء الفاطميين للروم من بلاد الشام التي عادت الى سيطرة المسلمين.
ويعيد المؤرّخ أول عملية اضطهاد للموارنة، من قبل الفاطميين والسلاجقة، الى بدايات القرن الحادي عشر. إذ يعتبر أن موجة «الاضطهاد» تلك كانت الأولى منذ الفتح الإسلامي. يرسم صاحب «حروب داوود» كرونولوجيا الهوية المارونية ولو باقتضاب، فيصفهم بالشعب الصلب الغيور على كيانه ودينه، الماهر في القتال. ولعل وعورة البيئة التي هربوا اليها أكسبتهم هذا الزخم من الصلابة، من دون أن ننسى الصعوبات التي تعرضوا لها إثر التحولات السياسية منذ اندحار بيزنطيا، وصولاً الى انتقال الخلافة الإسلامية الى العثمانيين.
الحدث التاريخي الأساسي الذي يضيء الصليبي عليه يتمثّل في زحف الفرنجة أو الصليبين عام 1096 الى المشرق بحجّة حماية الأمكنة المقدسة. ويذكر أن جزءاً من الموارنة تعاونوا معهم واستقبلوهم «وفي ربيع 1099، وصل الفرنجة الى عرقا قرب طرابلس، فنزلت وفود الموارنة لاستقبالهم هناك يوم عيد الفصح في 10 نيسان، وهكذا تمّ اللقاء الأول بين الموارنة والفرنجة».
احتلال الفرنجة لأجزاء من بلاد المشرق سمح للموارنة بالإفصاح عن هويتهم، فأنشأوا الكنائس والأديرة في مختلف قرى جبل لبنان، وبدأوا بدق النواقيس من النحاس بدل الخشب للصلاة والقداس. وأسباب ذلك أنّ الدول الإسلامية منعت المسيحيين من استعمال الأجراس النحاسية والاستعاضة عنها بالنواقيس الخشبية.
لم يستقر بطاركة الكنيسة المارونية في حيز جغرافي واحد. ورغم أن زحف الفرنجة الى المشرق سمح بانتعاشهم، إلا أنّ حملات المماليك على كسروان أصابهتم بنكسة. وفي هذا السياق يلفت الصليبي الى أنهم لم يتعرضوا في البداية للاضطهاد من قبل المماليك الذين «ركزوا اهتمامهم على اضطهاد النصيرية والشيعية الإسماعيلية والاثني عشرية في منطقتي الضنية وكسروان».
وحالما أغار فرنجة قبرص على الإسكندرية، تعرّض المسيحيون، وبينهم الموارنة، لـ«اضطهادات عنيفة» من قبل المماليك. مع الخلافة العثمانية قسمت الممالك الى إيالات، ما أدى الى ضم الموارنة في جبة بشري وبلاد البترون الى ولاة طرابلس العثمانيين. وحدث هنا تحولٌ مهمّ في تاريخ الموارنة كما يلفت الكاتب. تعززت علاقتهم مع آل عساف، التركمان السنيين، وهؤلاء أتت بهم السلطنة لتدبير شؤون ولاية طرابلس، واستعان بهم الأمراء العسافيون لمناوأة خصومهم من الشيعة «سكان كسروان الأصليين».
يرصد صاحب «المؤرخون الموارنة خلال العصر الوسيط» تنامي حضور الطائفة المارونية، سياسياً وديموغرافياً، في حقبات تاريخية مختلفة. قوة هذا الحضور ترسخت بفعل عوامل عدة، بينها حركة النزوح الماروني الى المناطق الدرزية والشيعية في منطقتي الشوف وكسروان، والامتيازات التي تلقتها البطريركية المارونية من العثمانيين بضغط من فرنسا التي حققت لهم حلم إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920. ذلك هو آخر إصدار الصليبي، علماً بأنّ هذه الدراسة الموجزة كتبت قبل أربعة عقود ونيّف. ومن يدري، ربّما كان في أدراجه أو لدى ناشريه مخطوطات أخرى ستبصر النور بعد رحيله. ورغم كونها موجزة، فإن هذه الدراسة تقدّم مفاتيح معرفية مهمّة في تاريخ الموارنة وبقية الطوائف. والمؤرّخ اللبناني، الذي غادرنا أخيراً، إن دلت مؤلفاته على شيء، فعلى الافتراق المنهجي الذي دشنه الكاتب بشكل تراكمي. ولا شك في أنّه أصاب التاريخ الرسمي بشظايا كثيرة، لا في المجال اللبناني فحسب، بل أيضاً في الجزء الأكبر من المواضيع التي تطرق إليها ودعمها بوثائق ومصادر.
ولعلّ أهمية المؤرخ الإشكالي أنه سار طوال حياته العلميّة وحيداً عكس التيار، ما أعطاه حيّزاً سجالياً قلّ نظيره مقارنة بمعاصريه من المؤرخين.