كل جمعة وسبت، أصبح لبيروت موعد ثابت مع الرقص المعاصر في «مقامات بيت الرقص». بعد الدورة الأخيرة من BIPOD (ملتقى بيروت للرقص المعاصر) الذي استقبل أكثر من 7000 مشاهد، ولدت الحاجة لدى عمر راجح، المدير الفني لـ «مقامات» إلى خلق فضاء متخصص بالرقص المعاصر، يستقبل الجمهور على مدار العام. وهكذا، جاءت فكرة «بيت الرقص» الذي افتُتح في 2 أيلول (سبتمبر) في مركز «مقامات» في الحمرا. يرتكز مفهوم «مقامات بيت الرقص» على توفير عنوان ثابت لجمهور الرقص المعاصر من دون الحاجة إلى انتظار المهرجانات السنوية، كما يؤمن للفنانين مساحة للعمل وتقديم العروض.
عادةً ما يعدّ الراقصون عروضهم خلال أشهر، ليقدموها لاحقاً لمدة أسبوع على الأكثر. ومن هنا تأتي أهمية برمجة هذا الفضاء، الذي يتيح للأعمال والتجارب ديمومة واستمرارية في التواصل مع المشاهدين، طوال أشهر ضمن برمجة طويلة النفس وبعيدة النظر. كما أنّ هيكلية الفضاء، توفّر جواً حميماً بين الجمهور والراقصين، إذ يستوعب «مقامات بيت الرقص» 40 مشاهداً مدعوين بعد كل عرض إلى مجالسة الراقصين. وهذه المحطة الثابتة تكتسب أهمية كبيرة، متى عرفنا أنّ الرقص المعاصر ما زال حديث العهد في الثقافة العربيّة إجمالاً، وأنّ هناك حاجة لدى الجمهور اللبناني مثلاً، إلى مدّ جسور حوار مع الراقصين، ومحاولة فهم لغة هذا الفن المعاصر والإمساك بمفاتيحه الجماليّة والمعرفيّة. وهذا الحوار يُغني الراقصين أيضاً، وخصوصاً أن البرمجة بتوزيعها للعروض تسمح للراقصين بإعادة التفكير وتطوير عملهم، في تفاعل مع الجمهور المتغيّر على مدار الأسابيع والأشهر.
أما البرمجة، كما يوضح عمر راجح، فتقوم على تقديم أعمال لراقصين محليين وعالميين. مما سيمثّل روزنامة غنية على امتداد السنة. «بيت الرقص» مفتوح لجميع الاقتراحات المقدمة من راقصين محليين. أما الراقصون العالميون، فغالباً ما ستجري استضافتهم ضمن إقامة فنية في «مقامات»، حيث يقدمون عروضهم، بموازاة ورش عمل مع الفنّانين الشباب المنتمين إلى برنامج «تكوين».
هكذا، تستقبل «مقامات» إستار سلمون. الراقصة الهنغارية الأصل، الألمانيّة الإقامة والعمل، ستدير ورشة عمل مع راقصين محترفين للإعداد لعمل سابق لها هو «إعادة إنتاج» (2004) الذي يعرض في «بيت الرقص» هذا السبت. وفي 16 الشهر، تقدم إستار عرضاً آخر هو «الرقص من أجل لا شيء» (2010).
ويستعيد «بيت الرقص» عرض علي شحرور «على الشفاه ثلج» (أنظر المقالة أدناه)، وعرض الافتتاح الذي شاهدناه الجمعة الماضي بعنوان «في مواجهة الصفحة البيضاء» لعمر راجح. في عرض راجح المنفرد، واستناداً إلى مقال لميشال فوكو بعنوان «ما هو المؤلف»، يطرح الراقص والكوريغراف اللبناني تساؤلات عن الروابط بين الفنان وعمله. الجسد على المسرح، لا يسعى إلى العرض. هو فقط ما هو، بعيداً عن قيوده الاجتماعيّة، وارتباطاته مع الهوية، الثقافة، الدين، السياسة... هل يستطيع أن يقف على قدميه؟ ما معنى هذا التجريد؟ هل يمكننا رؤية الجسد بآنيته من دون قراءته عبر الأفكار، والصور، والأفعال المسبقة؟
يرتكز العرض على الأسئلة التي يطرحها راجح، وعلى مفهوم تصعُب ترجمته بصرياً وحركيّاً. على الخشبة، نحن أمام راقص يظهر تقنيته في ما يشبه 45 دقيقة من الارتجال الحركي. مسار يبدأ بتصميم ذي توجه حيواني، لينتقل إلى الحركة المقطعة إيقاعياً، التي تفضي إلى تجزئة الجسد، حتى يتغير الإيقاع الموسيقي ومعه الحركة، التي تتجه إلى السلاسة... إلى أن يقف الرقص جسدياً ويتحول إلى وصف كلامي.
هل هذه الحركات المتواصلة كفيلة بدفعنا كمشاهدين إلى فصل اللحظة عن تاريخها؟ وخصوصاً أنّ في الكوريغرافيا صوراً كثيرة من لحظات رافقت عمر راجح كراقص في «بيروت صفرا» (2002) و«استمناء ذهني» (2004)، وحالت دون مشاركة المخرج أسئلته. إنّها إحدى أكبر معضلات الفن المعاصر في جميع قوالبه، عندما يطغى المفهوم الأساسي الذي انطلق منه الفنان على العمل الفني المقدَّم. هكذا، يضطر المشاهد إلى بذل جهد لإعادة ربط مفهوم عميق «كالمؤلف» عند فوكو، بمحاولة فكّ رموز عرض أقرب إلى الارتجال. بوسع الجمهور الذي فاته العمل، أن يشاهد عروضه المقبلة في «بيت الرقص» (30 سبتمبر، ثم 14 و21 و28 تشرين الأول/ أكتوبر)، كما يمتد البرنامج خلال تشرين الأول مع لوك دنبري ومارلون باريس وغيرهما...
بذلك، يعدنا عمر راجح بتجارب مختلفة في «مقامات بيت الرقص»، تغني ساحة الرقص المعاصر في بيروت، كما يدعو الفنانين من مختلف المجالات إلى تقديم مشاريع مرتبطة بالرقص، من موسيقى، وشعر، ومسرح وفيديو... وطبعاً عروض رقص.

«مقامات بيت الرقص»: عروض متواصلة عند الثامنة والنصف من ليل كل جمعة وسبت: العمل المقبل هو «إعادة إنتاج» لـ إستار سلمون ـــــ 10 أيلول (سبتمبر). «مقامات»، الحمرا، بيروت (بناية استرال، الطابق الثاني) للاستعلام: 01/343834



دورة جديدة من «تكوين»

في موازاة افتتاح «مقامات بيت الرقص»، انطلقت أمس في بيروت، الدورة الثالثة من «تكوين ــــ مدرسة بيروت للرقص المعاصر» التابعة لـ «مقامات». وتستقبل مجموعة من الفنانين والراقصين الشباب من لبنان وفلسطين ومصر والنرويج، لإدارة ورش عمل مع الطلبة تتوَّج بعروض تقدّم خلال هذا الشهر. وسيشارك في التدريب هذا الموسم الكوريغراف السويسري مارسيل ليمان (17 و23/ 9) والكوريغراف البريطانية املين كلايد (24/ 9) اللذان سيقدمان عروضهما مع تلاميذ المدرسة. علماً أنّ الحصص التدريبية الصباحية للمدرسة ستكون مفتوحة لكل الراقصين في بيروت.