القاهرة | استيقظ كعادته فجراً، فرد أوراق الكتابة، أمسك بصدره فجأة، لكنه لم يتمسّك بروحه طويلاً، أفلتها ببساطة. «عم» خيري شلبي رحل بلا ألم، بمهارة خبير في الموت. قبل سنوات طويلة، تعطّلت سيارة صاحب «موال البيات والنوم» في طريق «صلاح سالم» السريع. بالكاد استطاع الانحراف نحو اليمين، توغّل في منطقة المقابر القديمة «قايتباي»، تعطّلت السيارة لكنّه استطاع العثور على ميكانيكي من سكان المقابر. انهمك العامل في التصليح، بينما جلس الروائي على كرسي قديم يستكمل كتابته. تدافعت الكلمات بلا عائق.
وجد في جوّ المقابر الساكن شيئاً غامضاً لم يفهمه. منذ تلك الحادثة، أنفق الأعوام الطويلة يكتب في غرفة في المقابر. أصدقاؤه هم الموتى وأصدقاؤهم من عمال ومهمّشين وهائمين على وجوههم. هناك كتب أعماله الكبرى، ورسّخ نفسه كأحد أهم أعمدة السرد في جيل الستينيات. بعد سنوات أخرى، حاول تفسير الحنين الغامض إلى الموت بأنّه الحنين إلى «فوة» المدينة الأثرية التي تحوي 365 مسجداً وقبة أثرية بعدد أيام السنة منذ العصر المملوكي. هناك، قضى طفولته حيث ولد في محافظة «كفر الشيخ»، وحفر التاريخ وآثار الموتى مكاناً عميقاً في قلبه...
الكاتب المتعدد الاهتمامات والطموحات، أنهى 70 كتاباً بين رواية وقصة قصيرة ونقد وبحث مسرحي، فضلاً عن كتابات فن البورتريه. اهتمامات لا تشي بها طفولته الصعبة والقاسية والمتقلبة إلى درجة العمل مع عمال التراحيل. تعرّف باكراً إلى وجه آخر للحياة نادراً ما كتب عنه الأدباء، لأنهم نادراً ما عايشوه. قادته حياته بعد ذلك، أو ربما قادها هو، إلى المزيد من طريدي المدن وسكان الهوامش. صاغ ذلك كله عبر عمره الروائي، لكنه تبلور في «وكالة عطية» الأشد تعبيراً عن عالمه الروائي. هنا، يعتدي الطالب المتفوق في معهد المعلمين على أستاذه، فيطرد من المعهد، ويسقط فجأة من سقف مستقبله الزاهر إلى قاع المدينة بين الصعاليك والمهمشين والمجرمين الذين تجمعهم «وكالة عطية». المكان هنا هو البطل. مع ذلك، فكل شخصية تستحق البطولة.
في حياته الغنية، التقى شلبي أغرب الناس، لكن يصعب تصوّر أنه التقى كل هذه النماذج العجيبة في عمر واحد. لا بد من أنه منح شخصياته الكثير من نفسه حتى انزاحت من تخوم الواقع إلى حدود الفانتازيا. هكذا يبدو الأمر أكثر في روايته «صالح هيصة» الذي هو «ملك الكحيانين»، لأنه «كحيان بكل الطرق». ثلاثيته «الأمالي» التي تكونت من «أولنا ولد»، «وثانينا الكومي» و«ثالثنا الورق» تحولت إلى مسلسل «الكومي» على يد المخرج محمد راضي. لم يكن التحويل إلى الفنون البصرية نادراً في أدب شلبي، لكن الفضل الأبقى ظل للسرد الروائي، ربما باستثناء «سارق الفرح» قصته القصيرة التي حوّلها داود عبد السيد عام 1995 إلى إحدى علامات السينما المصرية.
رحل الرجل الذي لم يكف عن الكتابة والبحث والعمل المؤسّسي (تولى رئاسة لجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة ورئاسة تحرير مجلة «الشعر»...). كان له في كل ذلك نشاط وافر وخلافات وصداقات وعداوات. ترك كل ذلك ورحل بيقين وحيد أنّ السرد وسيلته الضرورية للحياة.