مثقّف عراقي آخر يرديه كاتم الصوت في منزله وسط بغداد، عشيّة «جمعة غضب» كان أحد منظّميها. ثلاث سنوات بعد كامل شيّاع (٢٣/ ٩/ ٢٠٠٨)، الهمجيّة نفسها تحصد هادي المهدي. دوّامة العنف المشبوه، تنتجها بنى سياسيّة متأكلة في العراق الجريح الذي جاءه الكاوبوي الأميركي «محضّراً»، باسم الديموقراطيّة والتقدّم، فترك بلداً ممزّقاً يحكمه صغار الطغاة والعملاء. بمساندة الجماعات المهتاجة، والعصابات الطائفيّة، والمافيات على أنواعها، يبرع هؤلاء في إدارة لعبة العنف والفساد والقمع والتجهيل.

يصادرون الحقوق الشرعيّة لشعبهم، عبر آفة «المحاصصة» التي نعرفها في لبنان جيّداً. هذا كل ما تستطيع أن تقدّمه لنا الديموقراطيّات الغربيّة المدافعة عن هيمنتها ومصالحها الاستراتيجيّة. حين نفكّر في الانتفاضة العربيّة الراهنة، المشرّفة والمحقّة والشرعيّة والضروريّة، نخاف عليها من فرسان «الرعاية الأطلسية» الذين قد يقحمون بلدانهم في دوامة العبث والموت والجنون. ما سبق لا يعني المساواة بين الضحيّة وجلاّدها، فالطغاة يتحمّلون وحدهم مسؤوليّة هذا الخراب العظيم، لأنّهم لم يتركوا كوّة ولو صغيرة يتسلّل منها الأمل.
هادي ابن الشعب المقهور، رفع راية المواطنة والدولة المدنيّة. آمن بوطن عادل وعصري لجميع أبنائه، بمعزل عن العرق والدين والانتماءات الأخرى. لم تلجمه التهديدات، ولا الاعتقال المهين. لم يخش الموت، فحدسه كان يقول له إن ما يعيشه ورفاقه «بروفة في جهنم». أراد أن يذهب إلى النهاية، بمباركة جواد سليم، كما بطله هاملت: «تحت نصب الحريّة». ما دام هناك أفراد مثل هادي المهدي، فالمستقبل لا يزال ممكناً، وأوطاننا أحلام قابلة للتحقق.