بغداد | مع مقتل المخرج المسرحيّ والإعلاميّ العراقيّ هادي المهدي (1965 ــــ 2011)، نستعيد مقطعاً من قصيدة للشاعر المغترب صلاح نيازي: «أيّها الملاكان الحارسان على الكتفين/ تعرفان ـــ لا ريب ـــ الوقائع بحذافيرها/ من طرقَ الباب الخارجي إلى آخر نفس/ ولكن كُتب عليكما الصمت والغياب... لا يمكن لكما أنْ تشهدا/ حتّى لو انقلبت الأرض عاليها سافلها». مجهولون دخلوا بيت الفنّان في حي الكرادة في بغداد، وأطلقوا عليه النار من مسدس كاتم للصوت، فاستقرّت طلقتان في رأسه، وفارق الحياة عصر الخميس الماضي. لم يكتشف اغتياله إلا بعد ساعات من الحادث، عندما جاء جاره متفقداً البيت وقد أقلقه مرأى الأبواب المشرّعة، ليكتشف هادي صريعاً في دمه.
قاد المهدي بنفسه أكثر من تظاهرة تأييداً لثورتي تونس ومصر، ثمّ تظاهرات تطالب بالإصلاح في العراق. ثم كانت تظاهرة 25 شباط (فبراير) الماضي بداية سلسلة تهديدات تلقّاها الفنّان والإعلامي الثوريّ وغيره من الناشطين في الحركة الاحتجاجيّة. لكنّ ذلك لم يمنعه من مواصلة الدعوة الى التظاهر، وخصوصاً أنّه كان أحد منسّقي التظاهرة التي انطلقت الجمعة الماضي من دونه! مع اغتيال المهدي، غيّرت التظاهرة اسمها من «جمعة البقاء» الى «جمعة هادي المهدي»، وتخلّلتها مراسم تشييع رمزية لشهيد ساحة التحرير انطلقت من بيته حتى نصب جواد سليم في الساحة ذاتها. وقد منع عناصر الأمن المشيّعين من حمل نعش رمزيّ ملفوف بعلم العراق، ليواصل الشباب تشييعهم وهم يهتفون مرددين: «هادي يا شهيد الصوت/ خوّفْهم حتى التابوت»... كما رفع المتظاهرون صوره، ولافتات كُتب عليها «كلنا هادي المهدي».
الفنان الذي أخرج العديد من المسرحيات، منها «بكاء في غياب القمر»، «هاملت يستيقظ متأخراً» و«في انتظار غودو»، واصل نشاطه في بلاد الرافدين بعد عودته من المغترب الدنماركي عام 2004، علماً بأنّه هرب من العراق بعدما شارك في انتفاضة الشعب عام 1991 ليتنقل بعدها بين دمشق وبيروت وكردستان العراق، حتى وصوله الى الدنمارك. في بغداد قدّم عملين مسرحيين متميّزين هما «بروفة في جهنم» و«هاملت تحت نصب الحريّة» وظلّ يكتب مقالات في الصحافة العراقيّة. كما أنّه صاحب البرنامج الإذاعي الأشهر «يا سامعين الصوت» على راديو «ديموزي» الذي كان ينتقد فيه أداء الشخصيات السياسيّة من مختلف التيارات.
الكاتب والصحافيّ سرمد الطائي رأى أنّ «الطلقة التي استقرّت في رأس هادي المهدي، أرادت أن تقول إنّه ممنوع على العراق العبور الى العصر الحديث. على العراق أن يبقى في قمقم صدّام تحت لافتة أخرى تمثلها القوى السياسيّة والدينيّة المتنفذة اليوم». وتابع: «شباب العراق متمسكون بالتواصل مع العالم الحديث غير تجربة التشدّد السياسي والأصولي والقومي. وفي داخل كلّ واحد منهم روح هادي المهدي وثوريّته المعهودة. وهم من سيكتب المستقبل وليس تلك القوى الارتكاسيّة».
منذ عودته الى العراق، حظي الشهيد باهتمام ملحوظ من النقاد والصحافة الثقافيّة، بفضل تجارب مسرحيّة لافتة، تستند إلى نهج مغاير، أضاءت على الواقع العراقيّ المأزوم بأدوات مخرج حداثيّ يعدّ بنفسه نصوص مسرحياته. «بروفة في جهنم» التي قدمها عام 2009، اعتمدت على فكرة «التمرين» المسرحيّ من خلال أربعة شبان يتمرّنون على مشاهد تمثيليّة يوحّدها «منطق البروفة كونه مقترحاً لصياغة عرض مسرحيّ». عرّف المهدي عمله هذا بأنّه «حريّة بحث عن نصّ يولد على الخشبة وينتمي لكلّ تفاصيل الحياة».
الناقد محمد غازي الأخرس يرى أنّ المهدي مزج في «بروفة في جهنم» أحدث نظريات التجريد العالميّة مع الحفاظ على الطابع المحليّ، فضلاً عن موضوع المسرحية التي تقوم «على منطق الأسئلة التي يطرحها الممثلون الأربعة». أما في «هاملت تحت نصب الحريّة» (2010) فأرادها «مدّ لسان في وجه السياسة القبيح». تقوم فكرة المسرحيّة الاحتجاجيّة على إجراء مجموعة من الفنّانين الشباب بروفة لنصّ شكسبيريّ تحت نصب الحريّة، داعين 30 مليون عراقيّ لحضور العمل بوصفهم «كومبارس» في إحالة إلى العلاقة بين السياسيين والشعب الذي لا يضطلع سوى بدور ثانوي بالنسبة إلى الزعماء. وخلال البروفات، تحدث مفارقات تعبّر عن أزمات الواقع العراقي.
لدى عرض المسرحية في كلية الفنون الجميلة في بغداد، قال المهدي: «المسرحية تضج بأسئلة العراق الراهنة. ولهذا كان الاختيار تحت نصب الحرية، لأنّ العراق لا يساوي شيئاً بلا نصب الحريّة»!



واقعة تضاف إلى الـ CV


بعيد انفضاض تظاهرة ٢٥ شباط (فبراير) الشهيرة، توجّه أربعة ناشطين، يجمعون بين المسرح والسينما والشعر والصحافة، إلى مطعم قريب وسط بغداد: هادي المهدي، علي السومري، علي عبد السادة وزميلنا حسام السراي. وإذا بالجيش يداهم المكان، ويعتقلهم تحت وابل من الضربات والشتائم. ساعات مهينة من الاعتقال، علّق عليها هادي: «بسيطة يا أصدقاء، تلك واقعة ستضاف إلى الـ CV».