قرأ توم بوغارت كتب إدوار سعيد. وهو يعي نظريات «المستشرقين المتحيزين للانطباعات المسبقة» كما سمّاهم سعيد في «الاستشراق». يدرك الفنان البلجيكي أيضاً أنّه «مستشرق طارئ على المنطقة» كما يقول لـ«الأخبار». بعدما ترك عمله كناشط حقوقي في منظمة العفو الدولية، حاول بوغارت الآن دخول السياسة من زاويتها الأخرى: عبر انطباع الفنّان. لقد أدرك أنه لن يقدر على تحقيق حلمه بتغيير العالم. هكذا ولد فنان جديد مهتم بالسياسة، وبأثرها على بلدان المنطقة.
ومنذ أكثر من ثلاث سنوات، أقام معارض عدة في حلب، وعمّان، ورام الله، وها هو يحطّ في بيروت. ويأتي هذا المعرض بعد إقامة فنيّة استمرّت شهراً تجوّل خلاله في شوارع المدينة، محاولاً القبض على روحها. لكن يبدو أنّ أكثر ما جذبه إلى بيروت هو تصدّعها بالمعنيين المجازي والملموس، وهشاشتها السياسيّة.
للاقتراب من هذا التصدّع، وجد بوغارت ضالته في كاراج في منطقة الشيّاح. الزجاج الأمامي المتشقّق لسيّارة سيكون العنصر الأول من المعرض. ولأنّه لم ينجح في تنفيذ خطته بالتجوّل في الجنوب اللبنانيّ، واضعاً علامة ARTIST ـــ فنّان على زجاج سيارته بدلاً من TV، قرّر تنفيذ خطته الثانية. وجد في تشقّق الزجاج ما يشبه خريطة لبيروت، فوضع عليها «دليل رموز الخرائط»، واقتطع جزءاً من خريطة فعلية كُتب عليها «بيروت» ووضعها على الزجاج الأمامي. هذه الخفّة في تناول القضايا الجدليّة يرجعها بوغارت دوماً إلى أنّه «فنّان طارئ على المنطقة». وهذا ما يؤكّده في العنصر الثاني من المعرض. أثناء تجوّله في الشوارع، لاحظ بوغارت عواكس الضوء على الأرصفة والحواجز، ليكتشف أن الكثير من العواكس التي يبلغ عددها 100 ألف... محطّم!
هنا تبدأ رحلة أخرى. قرّر البحث عن مصدر هذه العواكس، فقضى خمسة أيام بين مكاتب بلديّة بيروت، حتى وصل إلى مستورد القطع الذي يجلبها من فرنسا ويبيعها للبلديّة. ويتساءل بوغارت هنا عن سبب استيراد هذه القطعة من فرنسا بمبلغ كبير، بينما يمكن استيرادها من الصين بسعر أقل بكثير. في النهاية يبتاع 50 قطعة، وبدلاً من تركيبها في مكان العواكس المحطّمة على الأرصفة، يصنع منها قوالب ويضع فيها ماءً ليجمد، ثم يضعها في مكانها، معتمداً على خريطة وضعها بنفسه أثناء رحلة الاستكشاف.
يقول بوغارت عن هذه التجربة التي صوّرها ضمن فيديو يقدَّم في المعرض: «تحتاج قطعة الثلج إلى 20 دقيقة لتذوب، هذا يعكس فكرتي عن نفسي ويخلّصني من الادّعاء بأنني أريد أن أترك بصمتي في المكان. هذا ما يعتقده الكثير من الفنانين الغربيين عندما يأتون إلى المنطقة. ما أقوم به أنني أترك أثري غير المرئي في البيئة كشخص طارئ وموقّت. هذه هي رسالتي وما أريد أن أترجمه كفنّان».
لكن، كيف ترجم ما رآه في سوريا قبل عام؟ وجد بوغارت غاليري صغيرة في حلب على استعداد لأن تغامر معه. كانت فكرته آنذاك بأن يترجم ما يراه في الشارع إلى فن. يقول: «في سوريا، شعرت بالتضخيم الذي يرافق عادةً الأنظمة الشيوعيّة. وشعرت بأنّه يجب أن أخترع شيئاً بسيطاً. وفكّرت بأن زعماء هذه الدول يمتلكون عادة أضرحة هائلة يبنونها قبل موتهم. وبما أن بشّار الأسد طبيب عيون، اقتبست إشارات لوحة اختبار النظر ونوّعت عليها».
هكذا اخترع لوحة اختبار نظر لكن بتأويلات جديدة. «أعتقد أن هناك تناقضاً في سياسات النظام السوريّ. بينما يقدّم نفسه على أنه علمانيّ، يقوم بدعم حركات دينيّة. يقدّم نفسه على أنه يساريّ، لكنّه يقوم بممارسات الأنظمة الديكتاتوريّة اليمينيّة». كما صمّم لعبة على الكمبيوتر يقوم فيها اللاعب بزيارة ضريح على شكل رمز في اللوحة نفسها. أما في بيروت، فيعرض الفنان تصميماً من الكرتون لهذا الضريح.
تجربة مختلفة ما يميّزها أنّها تعرّضت لجميع أنواع التجريد الأيديولوجي من خلال عدم التحيّز. إلا أنّ ما يعيب هذه التجربة أن صاحبها يحتمي طيلة الوقت بفكرة الاستشراق، ما يقصيه عن التفاعل مع المنطقة بشكل أعمق.



«متصدّع»: حتى 21 أيلول (سبتمبر) ـــ «زيكو هاوس» (سبيرز/ بيروت). للاستعلام: 76/678135