عندما دعا «ليبان جاز» عام 2009 الموسيقي النروجي بوغِه فِسِلتوفت إلى العاصمتيْن اللبنانية (ميوزكهول) والسورية (دار الأسد) على التوالي، كان مؤكداً أن القيّمين على المهرجان الدائم، أرادوا فتح قنوات تنظيمية على الجاز الاسكندينافي. كما كان شبه مؤكد، منذ ذلك الوقت، أن تورد غوستافسِن سيكون في عِداد الضيوف يوماً. إذاً، ها هو Liban Jazz يفتتح موسم 2011/ 2012، بعد غد الأحد، بأمسية يحييها عازف البيانو النروجي بعدما سبقه أيضاً إلى المهرجان المذكور مواطنه، عازف الترومبت نيلز بيتر مولفير.
طبعاً، هذا لا يعني أنّ تيار الجاز في النروج مزدهرٌ إلى درجة يسمح بخيارات كثيرة، وبالتالي بلائحة أمسيات طويلة. الجاز في هذا البلد، محدود نسبياً، ورموزه المرموقون قلّة، غير أنهم حالة خاصة، حديثة، تتميّز بالهدوء والتأمّل وعدم التشنّج، ربما بفعل المناخ في بلادهم، والاستقرار بكل أشكاله!
وفي فئة العزف على البيانو، يمكن اعتبار تورد غوستافسِن من أشهر الأسماء، إلى جانب المرشح الأبرز لدعوة لبنانية محتملة، الموسيقي المخضرم كيتيل بيورنستاد، زميل تورد في ECM، الناشر الألماني الذي يحتضن منذ سنوات هذه التجارب.
ولد تورد غوستافسِن عام 1970 في العاصمة النروجية. درس علم النفس ثم انخرط في عالم الموسيقى، فاختار الجاز الحديث على الطريقة الأوروبية، التي تتضارب حولها الآراء بين مؤيِّد ومنتقد. من يسمع تسجيلاته التي تحوي بمعظمها مؤلفاته ــــ لا استعادات لمؤلفات كلاسيكيات ــــ لا يجد صعوبة في ملاحظة خاصية أساسيّة، هي أن صاحب Being There (2007) يغوص من خلال النغمة (الرتيبة أحياناً) في تأملات وأحلام، ويسبر أغوار فكرة موسيقية واحدة. كل هذه الأدوات والمفردات تخص علم النفس أيضاً.
من هنا يمكن القول إنّ تورد لم يتفرغ للموسيقى، ولم يتخلَّ عن اختصاصه الأوّل، بل حاول دمجهما وصهرهما في التعبير الفنيّ. من منظار آخر، يمكن أيضاً استشعار نزعة روحانية بالمعنى الواسع عند الموسيقي النروجي، يسهل فهمها من قِبَل جمهور الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة عبر قياسها (مع الاعتذار عن المبالغة) بأسلوب المؤلف الأستوني الكبير أرفو بارت (1935).
أما بالنسبة إلى جمهور الجاز، فيمكن توضيح الصورة بالقول إن أعمال غوستافسِن هي، في مكان ما، من فئة الـ «بالّاد» (Ballade، مقطوعات الجاز ذات الإيقاع البطيء والمزاج الهادئ)، لكن بالمعنى الأوروبي أولاً، والحديث ثانياً، وثالثاً، غير المسطَّح على طريقة مواطنه، عازف الساكسوفون، يان غاربارك، لكن، كل ذلك قد لا يجعل منه محط إعجاب محبي الجاز الأميركي الأسود والنقي، علماً أنه يعكس أقله صورة أمينة لبيئته الأوروبية الاسكندينافية المعاصرة و... البيضاء.
في الشكل، يعتمد تورد غوستافسِن التركيبة الكلاسيكية في الجاز، أي الـ«تريو»، أو ثلاثي البيانو والكونترباص والدرامز. يستند في هذا الخيار إلى قول يردِّده «لستَ في حاجة إلى لغة جديدة، لكي تحكي قصة جديدة». هذا التوصيف الصائب، يحتاج إلى إضافة بسيطة، لكي تنطبق كليةً على صاحبها الذي يحكي قصة جديدة، بلغة معروفة، لكنه يستخدم مفردات جديدة، بعضها ليس من أدبيات الجاز، بل من قاموس الـ Ambient (بالمعنى المقبول للكلمة).
هذا الثلاثي يعتمد عموماً العناصر والمسارات التالية: إيقاع بطيء وحالم، أرضية تستند إلى الصدى غالباً، بدايات بسيطة، لحنٌ مينيماليّ وسهل التقبُّل، يجري تطويره نغماً وزخماً وكثافة، ثم بعض التكرار، فالسير نحو هدف يمثّل ذروة تعبيرية واضحة، وأخيراً... تَنَفُّس. كل هذه المكونات أو الخيارات الموسيقية الفنية والتقنية، تجعل من موسيقى تورد غوستافسِن علامة فارقة، يمكن التعرُّف إليها بسهولة. أضف إليها اللمسة الخاصة التي تميّز عموماً أي عازف بيانو. علماً أنها باتت معتمدة أكثر من ذي قبل، وبالتالي تلتقي مع أسلوب عدد من العازفين الذين يعتمدون المداعبة الخفيفة لمفاتيح الآلة.
لتورد غوستافسِن أربعة ألبومات عند ECM، آخرها فقطRestored, Returned يخرج عن التركيبة الثلاثية (أضاف إليها ساكسوفوناً وصوتاً). غير أن «ليبان جاز» يعلن أمسية للتريو، بالتالي ستتركّز الأمسية، على الأرجح، على ألبوم الفرقة الشهير Being There وأيضاً The Ground وChanging Places. يضم التريو إلى تورد غوستافسِن، عازف الكونترباص ماتس آيلرتسِن وعازف الدرامز يارلِه فسبستاد. وتجدر الإشارة إلى أن عازف الكونترباص انضم أخيراً إلى الفرقة، بعد رحيل رفيق درب غوستافسِن، هارَلد يونسِن (1970 ـــ 2011)، في حزيران (يونيو) الماضي.
إذاً، يمكن القول إن افتتاح موسم «ليبان جاز» مقبول، وخصوصاً أن «مهرجان بيروت للجاز» الذي ينطلق في نهاية الشهر الحالي، قد ينافس جاره البيروتي. هذه السنة أيضاً، كما سابقتها، تدعو «سوليدير» أسماءً كبيرة في عالم الجاز، على رأسهم تشوتشو فالدس (الذي حل ضيفاً على «مهرجانات بيبلوس»، صيف 2008) وماركوس ميلر... أما الافتتاح، فسيكون ركيكاً للأسف، مع اللبناني ربيع أبو خليل.

تورد غوستافسِن في «ليبان جاز»: التاسعة من ليل الأحد 18 أيلول (سبتمبر) ــــ «ميوزكهول» (ستاركو/ بيروت). للاستعلام: 01/999666