القاهرة | يقيم مكاوي سعيد في وسط البلد، في القاهرة، بصفة شبه دائمة، وتحديداً في مقهى «زهرة البستان» الذي صار عنوانه الثابت. هي علاقة طويلة جمعت بين صاحب «تغريدة البجعة» وهذه المنطقة الثرية بتحولات وأحداث وأشخاص جعلتها في الواجهة، ونقطة جذب للراغبين في امتلاك مفاتيح هذه المدينة انطلاقاً من قلبها. ومن «زهرة البستان»، يمارس مكاوي هوايته في تسجيل ما يدور هناك وتوثيقه. لم يكن كتابه «مقتنيات وسط البلد» (دار الشروق)، غير جردة أولية من ذلك العمر الطويل الذي عاشه هناك، وبقي خلاله مراقباً وراصداً ومسجلاً حكايات الناس وتحولات المكان ليخرج بتلك «المقتنيات» التي تحكي قصص أشخاص تقاطعت حياتهم مع هذه المنطقة، وشهدوا تحولاتهم الكبيرة فيها، صعوداً وهبوطاً. في «مقتنيات وسط البلد»، يسجّل مكاوي حكاية 41 شخصية مرت على هذا المكان الشهير، امتلكت مواهب حقيقية لكن قسوة الحياة لم تسمح لها بأن تظهر، فسُحقت تحت عجلات قطار سريع لا يرحم ولا يعطي اعتباراً لأحد.
ولهذا، فهو يقوم بما يشبه التحية لتلك الشخصيات، وما يشبه الدليل على أنّهم مروا من هناك وعبروا المكان ولم يأخذوا حقهم منه. بينهم من انتهى، وبينهم من هاجر، وبينهم من دخل دائرة الجنون. ويأتي التعاطف الواضح من قبل مكاوي تجاه هذه الشخصيات، لاعتقاده أنّه في الأساس واحد منهم. ولعلّه كان سيصبح واحداً من المقتنيات، مكتوباً بقلم أحدهم ربما، لولا أنّ رياح الشهرة دقت بابه وأخذته إلى المقلب الآخر من وسط البلد، بعد الانتشار الذي حققته رواية «تغريدة البجعة» التي بلغت القائمة القصيرة من جوائز «بوكر» العربية.
وعند سؤاله عن سبب الكتابة عن وسط البلد دون سواها، يجيب: «لأنّها المنطقة التي تجمع مختلف صنوف البشر في دائرتها، من مهمشين ومثقفين وأثرياء قدامى وقادمين من ريف مصر. وبالتالي، فهي منطقة مؤثرة في مصر كلها»، مؤكداً أنّ «ثورة يناير» أثبتت فعلاً أنّ هذه المنطقة مؤثرة على نحو كبير، كما أثبتت أنه كان على حق عندما ركّز عليها في معظم ما كتب.
وعلى طريقة «مقتنيات وسط البلد»، يضع الكاتب المصري حالياً لمساته الأخيرة على كتابه الجديد «كرّاسة التحرير» بوحي من أيام الثورة التي كان ميدان التحرير مركزاً لها. يقدّم مشاهداته الشخصية لما حدث خلال تلك الأيام، ويرصد تحركات «الناس العاديين الذين أدوا دوراً كبيراً في الثورة، لكنها لم تكن ظاهرة في الصورة».
يقدّم مثلاً صابرين «الفتاة الضامرة التي لا تتجاوز الرابعة عشرة التي لونتها الشمس حتى بات يصعب التأكد من لون بشرتها الحقيقي، وأدماها السير حافية في دروب وسط البلد وشوارعها وأزقتها». وكانت مهمة صابرين بيع الشاي للثوّار، ونجحت في خلق علاقة إنسانية رائعة معهم.
وهناك أيضاً بيار السيوفي الذي فتح شقته المطلة على ميدان التحرير لتكون محطة استراحة للثوّار، وكان «يقضي أياماً كثيرة بلا نوم، ويقسم يومه بين خدمة المقيمين معه، والنزول إلى الميدان. لو رأيته نائماً أثناء الثورة، ستدهش من كمّ الأدوية التي كانت إلى جوار سريره. فهو مصاب بالضغط والسكري وبعض الأمراض المرتبطة بالبدانة».
ويعرج مكاوي على ذكر الشعراء الذين أدوا دوراً كبيراً بدءاً من عام 2005 في بلوغ لحظة الثورة، من خلال نتاجهم الشعري التحريضي، وكذلك «جماعة ستة أبريل التي كانت موجودة بقوة في الميدان».
لكن الصورة ليست ناصعة دوماً في الثورة. في «كرّاسة التحرير»، يقدم مكاوي سعيد أيضاً قراءة لشخصيات ارتبطت أسماؤها بالثورة بصورة مختلفة عن تلك التي ظهرت فيها عبر كتابات وثّقت للثورة: «شعرت بضرورة تقديم الصورة بشكلها الصحيح، وفق ما رأيتها وتابعت تحركاتها في الميدان». ويؤكّد أنّ عملية «تلميع» كبيرة أجريت لأسماء محددة، ولأسباب غير مفهومة تماماً و«جاءت على حساب أسماء أخرى أدت «دوراً حقيقياً في الميدان». ويشير إلى أنّها أسماء شهيرة كانت تتعمد النزول إلى الميدان في الفترة الآمنة من اليوم «مكتفية بمهنة الظهور أمام كاميرات الفضائيات والإدلاء بالتصريحات النارية، ومن ثم تنسحب عائدة إلى منازلها».
ويؤكد أنّه سيذكرها في كتابه بكل صراحة «أمثال الدكتور أيمن نور، الذي طلب من قوات الأمن خلال موقعة الجمل توفير خروج آمن له من الميدان... والدكتور محمد البرادعي، الذي طلب منه الثوّار، قبل تنحي مبارك، أن يأتي إلى الميدان للاعتصام من أجل الضغط لتنصيبه رئيساً، فقال إنّه يخشى التدافع الجماهيري»!



«مقتنيات» الميدان

يضم «كرّاسة التحرير» جزءاً توثيقياً لميدان التحرير، وتفصيلياً عن الأماكن التي شهدت أعنف أحداث الثورة، مثل ميدان عبد المنعم رياض، وكوبري قصر النيل، ومقر الجامعة الأميركية، إضافة إلى مجمع التحرير الحكومي ومقر الجامعة العربية. ويأتي هذا الجزء على غرار الجزء التوثيقي «كتاب الأماكن»، الذي جـــاء ملحقاً بـ «مقتنيات وســـط البلد»، واصفاً أبرز أماكن تلك المنطقة ومقاهيـــها ومبانيها.
ومن المنتظر أن يصدر الكتاب بقطع عريض يمكن من خلاله ظهور كل قصة وسط صفحتين متقابلتين، على أن تحيط بها رسوم الفنان عمرو الكفراوي، الذي سبق أن نفّذ رسوم كتاب «مقتنيات وسط البلد».