ترك وضّاح خنفر مكتبه في مقرّ قناة «الجزيرة» في الدوحة، وأعلن أنّه مغادر «إلى ميدان آخر جديد». الإعلامي الفلسطيني الذي بدأ عمله في الفضائية القطرية مراسلاً في بغداد، وصل إلى إدارة أكبر شبكة إعلامية في العالم العربي، قبل أن يصدر قرار إقالته من منصبه وتعيين أحمد بن جاسم بن محمد آل ثاني مكانه. لم تكن قصة وضاح خنفر مع «الجزيرة» تقليدية. الرجل الآتي من خلفية «إخوانية» بامتياز، والمتمرّس في مجال الصحافة والإعلام، تمكّن من كسب ثقة أمير قطر، فحصل منه على تفويض كامل بحرية التصرّف في القناة، واستند إلى موازنة ضخمة تجاوزت نصف مليار دولار سنوياً. كلّ هذه العوامل حوّلته بسرعة قياسية إلى الحاكم الفعلي والوحيد في المحطة، والرجل الذي تخشاه الحكومات والأنظمة، حتى إن النكتة الشائعة عنه أنّه كان يمسك الريموت كونترول ويسأل أولاده: أي نظام تريدني أن أسقط لك؟
وخلال ثماني سنوات، نجح الرجل في إحكام القبضة على كل المفاصل الحيوية في المحطة، فعيّن مقرّبين منه في أغلب الإدارات، وهو ما جعل مجموعة كبيرة من العاملين في الفضائية يعبّرون عن امتعاضهم من تهميشهم على حساب «إسلاميين» مقرّبين من المدير العام. وأدى ذلك إلى استقالات متتالية أبرزها للمذيعات الأربع (جمانة نمور، ولينا زهر الدين، ونوفر عفلي، ولونا الشبل)، ثمّ غسان بن جدو، وغيرهم. ونجح خنفر كذلك في إبعاد مجموعة من مديري المكاتب في العواصم العالمية مثل ميشال الكيك (باريس)، وأكرم خزام (موسكو)... واستبدالهم بآخرين مقربين فكرياً وإيديولوجياً من توجّهاته.
ويرى مراقب للشؤون الداخلية في «الجزيرة» أن كل هذه الأخطاء المتراكمة جعلت قرار التخلّي عن خنفر سهلاً على الإدارة القطرية و«خصوصاً أنّ وثائق «ويكيليكس» ظهرت في هذه الفترة أيضاً، ما سهّل عملية إقالته». إلا أن المراقب نفسه يضيف أن عاملاً آخر «حرق أسهم خنفر»، وهو الصراع «التقليدي بين التيارَين القومي العربي والإسلامي في فلسطين والعالم العربي... ويبدو أن الكفّة مالت إلى الطرف الثاني».
رحل إذاً وضّاح خنفر، بعدما كان الصانع الحقيقي لمجد قناة «الجزيرة» من خلال التغطية المتميّزة خلال اجتياح العراق، ثمّ عدوان تموز 2006، فالعدوان الإسرائيلي على غزة، وصولاً إلى الثورات العربية التي شهدت «السقوط الأكبر للمحطة مع مواكبتها لكل الثورات، وتجاهلها الكبير لثورة البحرين» يقول مصدر من داخل المحطة. ويضيف أن هذه الازدواجية في المعايير، ثمّ وثائق ويكليكيس، جاءت لتُفقد خنفر الكثير من صدقيته الشارع العربي.
ومع رحيل الإعلامي الفلسطيني من منصبه، ترتسم علامات استفهام حول مصير العاملين المحسوبين عليه أو من باتوا يعرفون بـ«أيتام وضّاح خنفر»: هل سيُبعَدون عن مناصبهم؟ وهل ستخضع القناة لإعادة هيكلة، تعيد خلط الأوراق عند الموظفين؟ وهل يراجع بعض الصحافيين في المحطة حساباتهم؟ أسئلة كثيرة لن تتضح الإجابة عنها إلا عند التعرّف إلى الخلفيات الحقيقية للمدير الجديد، أحمد بن جاسم بن محمد آل ثاني. الرجل الآتي من عالم الاقتصاد، عمل مديراً لشركة «قطر غاز»، ولا يكاد يعرفه العاملون في المحطة. إلا أنّ مجرّد تعيينه في هذا المنصب يفتح الباب واسعاً أمام استنتاجات عدة. أوّلها أن «الجزيرة» فقدت إحدى أبرز نقاط قوتها، مع تعيينها مديراً من عائلة آل ثاني. المحطة التي تغنّت طويلاً باستقلاليتها، وبمديرها الفلسطيني، تعود اليوم محطّة نظام بالمعنى الكامل. وها هو أحد أعضاء العائلة المالكة يُعيّن مديراً عاماً لأكبر فضائية عربية. «الشيخ البترولي» ــــ كما بات لقبه على مواقع التواصل الاجتماعي ــــ سينجح من دون شك في الجانب الإداري، لكنّنا لا نعرف بعد من سيدير التحرير من الآن فصاعداً، ويحدد سياسة المحطّة؟ هنا يترك خنفر نقصاً واضحاً، هو الملمّ بخفايا الإعلام والسياسة، وقد كان معروفاً عنه اطلاعه على كل شاردة وواردة في «الجزيرة». يبقى السؤال الأهم: هل سيكون هناك تحوّل في السياسة التحريرية لـ«الجزيرة»؟ ربّما كان من السابق لأوانه الدخول في هذا النوع من التكهّنات، وإن كان يجري الهمس في كواليس المحطّة، كما نقل إلينا إعلامي بارز من داخلها، عن «تغيير في سياسة قطر إزاء الملف السوري، ما جعل من وضّاح خنفر كبش المحرقة». وبغضّ النظر عن إمكان حصول انعطافة سياسية، يبدو أن المحطة اتخذت قرارها قبل فترة، من دون أن تبلغ حتى أعضاء مجلس الإدارة الذين لم يعرف بعضهم بالقرار، إلا قبل ساعة واحدة من نشره في وسائل الإعلام. وبانتظار أن تتضح الصورة الجديدة، ستبقى الأنظار معلّقة بفضول إلى شاشة «الجزيرة»، بحثاً عن بوادر أي تغيير أو تحوّل في محطّة «الرأي والرأي الآخر».