الزملاء الكرام،15 عاماً قاربت على الانقضاء منذ أن أطلت «الجزيرة» على جمهورها قوية مدهشة ومتميزة، ومنذ اليوم الأول، قطعت على نفسها عهداً ووعداً بأنها مستقلة شعارها «الرأي والرأي الآخر». ولعل كلمتي الإعلام والاستقلالية كانتا في ذلك الوقت من الأضداد التي لا تجتمع. فالإعلام الرسمي العربي كان قد أفسد صورة الصحافة في أذهان الناس، وحوّل الإعلامي إلى أداة طيّعة في أيدي الحكومات (...).
ومرت الأيام، فإذا «الجزيرة» وفية بوعدها، وإذا الأنظمة الفزعة من هذا المخلوق الجديد تحاربه بكل صرامة، بالإشاعات أولاً، ثم بالاحتجاج لدى الحكومة القطرية، ثم بالاستهداف المباشر لمراسلي القناة ومكاتبها، وصولاً إلى الاعتقال وإغلاق المكاتب، ثم حجب إشارتها والتشويش على بثها، كل ذلك و«الجزيرة» ماضية في طريقها التحريري القويم، كلما وقع عليها أذى، ازدادت عنفواناً.
فلما رأى المشاهدون سيرة القناة مع أهل السلطة والنفوذ، وأيقنوا أن «الجزيرة» انحازت لهم في شوقهم القديم للتحرر والكرامة والانعتاق، وأنّ شاشتها تنتمي إلى عالمهم هم، ليست وافدة مما وراء البحار، ولا حاملة لأي أجندة سياسية أو حزبية أو أيديولوجية، وأنها تؤمن بمنح الجميع صوتاً، حتى أولئك الذين أذوها واعتقلوا أبناءها، عندها وعندها فقط منحوها ثقتهم.
شارعنا العربي ليس كما رآه الزعماء والملء من أعوانهم: سوقة ودهماء وغوغاء وأتباع كل ناعق، بل هو شارع ذكي ومسيّس، يدرك بفطرته السليمة ما لا تدركه النخب ولا أهل النفوذ، والثقة التي منحها الناس لـ«الجزيرة» كانت عن سابق وعي وتمحيص، ومع ذلك، فلن يكون جمهورنا رفيقاً بنا إن أخطأنا، وهذا خير ضمان لاستمرار «الجزيرة» في طريقها ونهجها. ذات النهج الذي قضى من أجله طارق ورشيد وعلي حسن الجابر، ومكث فيه تيسير وسامي في السجن بضع سنين، ومن أجله اعتقل وعذب وأبعد كثير منكم (...)
وعلى المستوى الشخصي، أكمل ثمانية أعوام في إدارة المؤسسة، بعدما عملت قريباً من الناس مراسلاً في أفريقيا وأفغانستان والعراق، وانزرع في وعيي أنّ الصحافة الحرة الحقة هي تلك التي تضع الإنسان في مركز اهتمامها، درس تعلمته وتعلمه كل مراسل لـ«الجزيرة» وكل عامل بها، وهو ما آليت على نفسي أن أحافظ عليه في السنوات الثماني الماضية: غرفة أخبار مستقلة تحترم عقول المشاهدين وتنحاز إلى وعيهم الجمعي بمهنية ومسؤولية.
الفضل يعود إليكم وإلى اقتراحاتكم في أن انتقلت «الجزيرة» من قناتين إلى شبكة من القنوات تزيد على 25، وتبث بالعربية والإنكليزية وقريباً بالتركية والسواحلية ولغة أهل البلقان، وكنتم أنتم من أعان في تشييد بنية مؤسسية حديثة وراسخة، احترمت العاملين فيها وقدمت لهم ما يستحقونه. ثم بجهدكم الدؤوب استطعنا أن نصل ببث الشبكة إلى مئات الملايين حول العالم، بما فيها الولايات المتحدة التي اتهم وزير دفاعها السابق «الجزيرة» بأنها كاذبة وشريرة، والتي عادت وزيرة خارجية إدارتها الحالية لتشيد بتغطيتها وتصفها بأنها تقدم أخباراً حقيقية. لم يفلّ الوصف الأول من عزم «الجزيرة»، ولم يَغُرّها النعت الأخير، فـ«الجزيرة» هي «الجزيرة» لم تتبدل ولم تتغير.
إنهم مراسلو الجزيرة المنبثون في أصقاع الأرض وصحفيوها ومنتجوها ومذيعوها وكل العاملين بها من قدم للعالم تغطية مدهشة للأحداث في حرب أفغانستان والعراق ولبنان وغزة ومقديشو، وهم من نقل الصور الأولى لكارثة تسونامي والمجاعة في النيجر، وفي عامنا هذا كنتم من أدهش العالم ونقل أنظارهم وأفئدتهم إلى ميادين التحرير والتغيير من سيدي بوزيد إلى جسر الشغور، في ثورة عربية سطّر الشباب فيها أسمى وأنبل ملحمة عاشتها أجيالنا، لا تزال تؤتي ثمارها كل حين، ماضية إلى منتهاها: عزة وكرامة وانعتاقاً من أغلال الاستبداد وأوثان الديكتاتورية.
وكنت محظوظاً في سنواتي الثماني الماضية أن جمعتني بمجالس إدارة «الجزيرة» علاقة عمل متميزة، وكان لخبرة رئيس المجلس، سعادة الأخ الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني (...) وما كان لـ«الجزيرة» أن تحقق ما حققت لولا الرعاية التي أولتها قطر شعباً وقيادة لها. فقد احتملت في سبيل الحفاظ على استقلالية «الجزيرة» أذى كبيراً (...)
ولأنّ «الجزيرة» قوية بمنهجها، ثابتة بانتماء أبنائها (...) ولأن ثمانية أعوام من العمل الإداري كافية لتقديم ما لدى القائد من عطاء، وأن مصلحة المؤسسات كما هي مصالح الدول (...) فقد كنت قد تحدثت مع رئيس مجلس الإدارة منذ زمن عن رغبتي في أن أعتزل الإدارة عند انتهاء السنوات الثماني، وقد تفهم مشكوراً رغبتي هذه، فها أنا ذا اليوم أمضي من موقعي إلى ميدان آخر جديد، أستلهم فيه روح «الجزيرة» ورؤيتها، وأنقل ما تحصل لي من تجربة وخبرة، مستمراً في الدفاع عن الإعلام الحر النزيه (...) وأبارك للمدير العام الجديد متمنياً له التوفيق والسداد في قيادة المؤسسة والمضي بها نحو آفاق أوسع. وبتعاونكم جميعاً معه، فإن «الجزيرة» ستكون بحول الله على الدوام منارة للإعلام الحر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وضّاح خنفر
(مقتطفات من الرسالة التي بعثها أمس إلى زملائه في «الجزيرة»)