الجزائر | لم تكن الندوة التي احتضنتها أخيراً مدينة تلمسان إلا خطوةً صوب الاعتراف بأحد أكبر الزعماء السياسيين الجزائريين في العصر الحديث. رغم أنّ المشاركين حاولوا التحدث بحرية لم يسبق لها مثيل عن مؤسس الحركة الوطنية مصالي الحاج، إلا أن الشعور باقتراف ذنب في حق هذا الرجل خيّم كسحابة ثقيلة جثمت فوق صدور المشاركين، في الندوة التي قدرت أن تكون في مسقط رأسه، بعدما اختيرت هذا العام لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية.
ذاكرة مصالي الحاج ظلت فترة طويلة مغيّبة عن التاريخ الرسمي الجزائري. وما دفع القائمين على التظاهرة إلى إعادة الاعتبار إلى أبرز شخصية تاريخيّة ليس سوى حركة «تطهير التاريخ» أو «سلسلة الاعترافات» التي يشهدها بلد المليون ونصف المليون شهيد في الآونة الأخيرة، إذ اعتكف الكثير من الباحثين على إصدار كتب تتناول الجوانب الغامضة من الثورة الجزائرية، وأخطاء قادتها، وسلسلة الاغتيالات التي ارتكبها بعض المجاهدين.
مصالي الحاج، الذي ولد في تلمسان عام 1898 وعاش حياته النضالية فيها، حظي بنصيب كبير من الإقصاء. لا يُذكر إلا على نحو عابر في التاريخ الرسمي، بل هو غائب عن المنظومة التعليمية، رغم أنّه مهّد للعمل السياسي من خلال تأسيس حزب «نجم شمال أفريقيا» عام 1926 للمطالبة باستقلال دول شمال أفريقيا، وضمّ مناضلين من الجزائر وتونس والمغرب. وهذا ما دفع السلطات الفرنسية إلى سجنه مرات عدة، لكن ذلك لم يمنعه من رفع صوته أكثر في المؤتمرات الدولية، مطالباً باستقلال الجزائر. ففي ذكرى احتفال فرنسا بمئة عام على استعمار الجزائر، وجّه مصالي مذكرة إلى عصبة الأمم المتحدة عام 1929، وعرض أمام العالم جرائم فرنسا، معتمداً على إحصائيات، وطالب باستقلال بلاده. وبعد فراره إلى سويسرا، حيث التقى المناضل العربي الكبير شكيب ارسلان، عاد مصالي إلى الجزائر بعد صعود الجبهة الشعبية إلى الحكم في فرنسا عام 1936. وخلال المؤتمر الإسلامي الذي عقد في العام نفسه، أطلق مقولته الشهيرة «هذه الأرض أرضنا، وليست للبيع»، رافضاً فكرة «الاندماج» مع فرنسا، التي طالب بها بعض السياسيين الجزائريين.
أسّس مصالي «حزب الشعب الجزائري» عام 1937، لتحلّه فرنسا بعد سنتين وتمنع جرائده من الصدور، وحكم على مصالي بـ 16 سنة من السجن، لكن هذا الحكم استُبدل بالإقامة الجبرية من قبل قوات الحلفاء بعد نزولها في الجزائر عام 1943. وبعد أحداث الثامن من أيار (مايو) 1945 التي قتلت فيها فرنسا أكثر من 45 ألف متظاهر طالبوا باستقلال الجزائر، عاد مصالي ليؤسس «حركة انتصار الحريات الديمقراطية» عام 1946، التي انبثقت عنها الحركة السرية التي فجّرت ثورة التحرير الجزائرية في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1954، محققةً استقلال الجزائر عام 1962.
لا يختلف اثنان على أنّ مصالي الحاج معلّم شباب الثورة. بفضله، اكتسبوا الوعي السياسي، ليصبحوا القادة المخططين لأعظم ثورة في التاريخ، وإن كان الخلاف قد اندلع بعدما نشبت انقسامات بين «المصاليين» و«المركزيين»، وامتد التقاتل ليطاول حتى السياسيين المهاجرين في فرنسا. هكذا، ظهرت لجنتان متنازعتان للتخطيط للثورة، لكن اللجنة المنشقة فاجأت مصالي بإعلان قيام الثورة. وهذا الصراع جرى التطرق إليه للمرة الأولى سينمائياً من خلال فيلم «خارجون عن القانون» الذي أخرجه رشيد بوشارب.
بعد الاستقلال، لم يمنع فقط الحديث عن «أبي الوطنية» وفق ما يلقّبه المؤرخون، حتى وفاته عام 1974 منفياً في فرنساً ومبعداً ومحروماً من العودة إلى وطنه. لقد ذهب كثيرون إلى اتهامه بالخيانة، مبررين ذلك بأنّه لم يكن موافقاً على الخيار العسكري لتحقيق الاستقلال، عندما قال «الوقت مبكر». وقد بقي حزبه «الحركة الوطنية الجزائرية» الذي أسسه عام 1954 الوحيد الذي لم ينظم الثورة، بل أسهم نفيه إلى فرنسا في إبعاده عن المشهد السياسي الجزائري في عز الثورة الشعبية، التي لم يُشهد لها مثيل في تاريخ الجزائر الحديث.
ولعل من يرجع إليه الفضل في كتابة المسار النضالي لمصالي الحاج هو المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، أحد المهتمين الكبار بتاريخ المغرب العربي، وخصوصاً الجزائر. وقد قال خلال مداخلته في الندوة «إن اهتمام الصحافة الفرنسية بوفاة مصالي الحاج، الذي لم تكترث بلاده بالحديث عنه، هو الذي دفعه إلى الاهتمام بذاكرة هذا الرجل، وقد اختار يومها سيرته النضالية موضوعاً لرسالة الدكتوراه»، كما ألّف ستورا كتابين عن مصالي.
ولعل بداية الاعتراف الرسمي بالرجل هي إطلاق اسمه على مطار تلمسان. كذلك أقيمت أخيراً بعض الملتقيات التي تناولت للمرة الأولى سيرة مصالي الحاج وبعضاً من جوانب حياته السياسية، لكنّها لم تكن خالية من الحيطة والحذر في تناول شخصيته. كما بدأت وسائل الإعلام تهتم تدريجاً بالرجل وتعيد ذاكرته إلى الأذهان، كذلك جرى للمرة الأولى الحديث عنه في السينما عبر إضافة شخصيته إلى أحداث الفيلم التاريخي «مصطفى بن بولعيد»، الذي أخرجه أحمد راشدي عام 2008، وجسد الدور الفنان الكبير سليمان بن عيسى (راجع الكادر).
ورغم مرور الوقت، والتغيرات السياسية الكبيرة التي شهدتها الجزائر منذ الاستقلال والمحاولات المتواصلة لدرء مسار مصالي الحاج من التاريخ، إلا أنّه كان حاضراً في الذاكرة الجماعية للجزائريين بوصفه مؤسس أول حزب سياسي جزائري، وهو أول من نادى باستقلال الجزائر في عز جبروت الاستعمار الفرنسي خلال عشرينيات القرن الماضي... ومصالي نفسه هو الذي قال: «التاريخ سيخرج يوماً ما ولو دفنوه تحت الأرض».



طيف المناضل

صرّح سليمان بن عيسى بأنّه خلال تصوير فيلم ««مصطفى بن بولعيد» في القسطنطينة، تهافت الجمهور لأخذ صورة تذكارية معه، ليس لأنّه الفنان المشهور، بل لأن الشخصية بهندامها وشكلها معروفة لدى الجميع حتى الأجيال الجديدة. وأضاف قائلاً: «الذين شاهدوا فيلم «مصطفى بن بولعيد»، خالوا في البدء أنّ العمل يتناول سيرة مصالي الحاج نتيجة تأثرهم بتجسيد قصة حياته، لكنّهم سرعان ما لاحظوا أنّه يتناول قصة مصطفى بن بولعيد.