مساء الغد، ينطلق «مهرجان بيروت للجاز» في أسواق بيروت قبل أسبوعين من موعد دورته الماضية. في السابق، اعتمد المنظمون على البرامج الغنية كمّاً والفقيرة فنياً. أما السنة الماضية، فتغيّرت السياسة، لتصبح حرفياً على النحو الآتي: ما قلّ ودلّ، زائداً بدعة! القليل الدّال تمثّل في أمستيْن استثنائيّتيْن أقيمتا في تشرين الأول (أكتوبر) 2010: الأولى غنّت فيها باتي أوستن، والثانية جمعت الثنائي، عازف البيانو جو سامبل، وزميلته المغنية القديرة راندي كروفرد.
أما البدعة، فأتت بتوقيع الموسيقي وعازف العود اللبناني شربل روحانا، الذي نكنّ لتجربته كل الاحترام، لكن لا مكان له في مهرجان جاز رغم إصراره آنذاك على مسألة رحابة صدر الجاز الذي يتسّع لكل شيء... حتّى «الروزانا»، على حد تعبيره في الحفلة.
هذه السنة، أبقى المنظمون سياسة «ما قل ودلّ» مع الكوبي تشوتشو فالدس، والأميركي ماركوس ميلر. أما البدعة، فحضرت مدعَّمة باعتراف مع ربيع أبو خليل، وأضيفت إلى طرفيْ البرنامج أمسيةٌ رابعة نحرص على عدم زجّها تحت الخانتيْن المذكورتيْن، والمقصود مشاركة الفنان الشاب فيليب الحاج.
إذاً، الأمسية الأولى يحييها المؤلف وعازف العود ربيع أبو خليل. أبو خليل أمّن تكريس الغرب، وبالتالي العالمية، من باب الناشريْن الألمانييْن ECM (ألبوم وحيد) ثم ENJA (باقي أعماله). لسنا هنا في صدَد تناول تجربة أبو خليل فنيّاً، إذ سبق أن فعلنا ذلك إثر صدور ألبومه ما قبل الأخير em português (٢٠٠٨). لكن الحقيقة الذي لطالما أشرنا إليها، حتّى اتّهِمْنا بالتجنّي عليه، أن ما يقدِّمه «فناننا العالمي» صنَّفه الغرب تحت خانة الجاز لاعتقاده (غير البريء ربما) بأنّ العرب فهموا الجاز بهذه الطريقة، أو هكذا يراد أن يظهر فهمهم السطحي للجاز!
باستثناء Il Sospiro (عود منفرد)، اعتمد ربيع أبو خليل تركيبات مختلفة، معظمها صغيرة. أدخل الغناء البرتغالي (المحاكي لفن الغناء التقليدي أو ما يعرف بالفادو) في ألبومه ما قبل الأخير. أما آخر إصداراته، فحمل عنوان Trouble In Jerusalem، واعتمد فيه الكتابة الأوركسترالية. بالتالي، كان طبيعياً أن تتمحوَر أمسيته المرتقبة حول عمله السابق بمشاركة فرقته والمغني البرتغالي ريكاردو ريبيرو.
بعد غد أمسية لعازف البيانو اللبناني فيليب الحاج وفرقته، وعلى البرنامج أعماله الخاصة، وخصوصاً ما ضمّه ألبومه الأخير Flying with Elephants (٢٠١١). إنه موسيقي كلاسيكي بارع في الأساس. خاض تجربة الجاز عبر استعادة الكلاسيكيات (لا تسجيل له في هذا الإطار)، ثم اتجّه نحو التأليف. يلتقي الحاج في بعض ما قدّمه من مؤلفات خاصة مع أسلوب أبو خليل في مقاربة الجاز. غير أن المحاولات الأفضل لا تزال ممكنة، وخصوصاً أنّ فيليب يتمتّع بامتلاك تقني تام لآلته، ومعرفة بأسرار الكلاسيك والجاز، وبالتالي خياراته الموسيقية كثيرة ورهن نضوج رؤيته الفنية ونقد مسيرته السابقة.
استراحة قصيرة تلي هذين الموعدين، يستأنف بعدها المهرجان الجزء الثاني من برنامجه، أي الشق الأجنبي العريق. في 6 تشرين الأول (أكتوبر)، يطل تشوتشو فالدس وفرقته The Afro-Cuban Messengers التي تتألف من سبعة موسيقيين بين عازفي آلات نفخ وإيقاع، كما تفرض الموسيقى اللاتينية عموماً أو الجاز الأفرو ــــ كوبي. لفالدس ميزتان أساسيتان.
هذا الفنّان المخضرم، هو حالياً في العالم من أبرز رموز النمط الموسيقي الذي يقدمه. مشاهدته عازفاً على البيانو تولّد شعوريْن: الأوّل أنّ البيانو هو من أسهل الآلات. والثاني أنّ فالدس أبرع عازف في التاريخ. سبب ذلك تقنياته الجهنمية، وسيطرته على آلته كماردٍ يتحكّم في صعلوك، لكن في الواقع، البيانو من أصعب الآلات على الإطلاق، والمهارات العالية ليست معياراً للمستوى الفني بالضرورة. فالدس فنانٌ ممتاز بالتأكيد، لكنّ ذلك ليس كلّ شيء. ولعلّ المنازلة التي جمعته بالعازف العتيق ميشال لوغران عام 2008 ضمن «مهرجان بيبلوس» هي خير مثال لفهم كل هذه المعادلات الموسيقية.
أما الختام (8/ 10)، فمع الأسطورة الحية في العزف على الباص، وأحد رموز الجاز الكهربائي منذ الثمانينيات، ماركوس ميلر. مسيرة الرجل بلغت ذروتها في ألبوم لمايلز دايفس بعنوان TUTU (1986). وعندما تناولنا الذكرى العشرين لغياب الأخير في ملف خاص خلال العام الجاري، اخترنا العمل المذكور ووصفناه بأنه إنجازٌ فنيّ شبه كامل لميلر (تأليفاً وتوزيعاً وعزفاً على آلات عدة)، لكنه حمل اسم دايفس لمجرّد موافقته على المادة الموسيقية، وإضافة الخيط الذهبي في العزف على الترومبت.
أخيراً، عاد ميلر بعد ربع قرن، إلى تلك المحطّة الخالدة، مؤكّداً أهميّتها في تاريخ الجاز المعاصر. لقد أصدر ألبوماً بعنوان TUTU-Revisited (استعادة حيّة للأصل)، أما الغلاف، فـ Revisited أيضاً، وبدل وجه مايلز، يظهر وجه ميلر مغطى على نحو نصفيّ! بعد المؤتمر الصحافي للإعلان عن المهرجان قبل أيّام، التقينا مصادفة رنده أرمنازي، مديرة العلاقات العامة والإعلام في «سوليدير»، فتذكرت عنوان مقالتنا السنة الماضية، وتمنّت ممازِحةً أن لا ترِد عبارة «غيتو» في وصف «سوليدير»...



«مهرجان بيروت للجاز»: 8:30 مساءً ابتداءً من الغد، حتى 8 تشرين الأول (أكتوبر) ــــ أسواق بيروت.
للاستعلام: 01/999666
www.beirutsouks.com.lb

MARCUS MILLER







CHUCHO VALDEZ