«وما الدنيا إلا ميدان التحرير»، يقولها إبراهيم عبد المجيد، وابتسامة عريضة تعلو وجهه. قبل 25 يناير الفائت، كان الروائي والقاص المصري قد فقد طعم الأشياء، وتلمّس طرق الابتسامة بصعوبة، وذاق طعم السير في أمكنة «طغت عليها رائحة النفاق والفساد والإفساد السياسي»، لكنّ كل هذا تغير الآن في داخله. يبدو ذلك واضحاً وهو يصطحبنا إلى ميدان التحرير، متقمصاً دور الدليل. يضع صاحب «طيور العنبر» خطوته هناك كمن يدخل بيته الشخصي. يستعيد معنا تفاصيل «أيام الثورة».
يشير إلى زاوية هنا وأخرى هناك. يحفظ عن ظهر قلب كل حدث، وكلّ تفصيل صغير وقَع في «الميدان»، ليبدو كمن كان يحمل كاميرا صغيرة في داخله، استطاعت التقاط وحفظ كل الصور العابرة. وعبر كاميرته الداخلية هذه، يسهل عليه استعادة ما جرى ووصف ما كان في «البيت»... فـ «ميدان التحرير صار الآن البيت الذي يضمنا جميعاً. إنّه الوطن الذي سيتحقق من هنا».
يبدو عبد المجيد كأنّه قد تخفف من ارتباطه الوثيق بمدينته الإسكندرية التي اشتهر من خلال الكتابة عنها غير مرة، وخصوصاً في عمله الروائي الأشهر «لا أحد ينام في الإسكندرية» (1996/ الطبعة التاسعة عن «دار الشروق» صدرت عام 2009). نراه اليوم منحازاً بالكامل لـ«ميدان التحرير» بوصفه وطناً. «كيف لا وقد رأيتُ فيه مصر تعود إلى مكانها الحقيقي في التاريخ، بعدما بقيت طويلاً في الهامش»، يقول صديقنا وهو يشير إلى لحظة انتصار الثورة على ثلاثين سنة سوداء، من حكم مبارك.
لحظة الانتصار هذه، استطاعت تعويضه عن كل سنوات الفقد والضياع والتشتت، كما عوضته عن فكرة الاغتراب التي كانت تراوده باستمرار، واقترفها «مرة واحدة إلى المملكة العربية السعودية». يتوقّف صاحب «بيت الياسمين» ليحكي عن تجربته هذه بألم عميق. «لقد ظهرت الشعرة البيضاء الأولى في رأسي هناك»، مشيراً إلى ظروف الحياة الصعبة، وتعقيد الظرف السياسي وقتها في مصر، ما أجبره على الهجرة. وكان من الطبيعي أن تخرج حكايته مع السعودية في عمل روائي حمل اسم «البلدة الأخرى» (1991). إنّها رواية عن الاغتراب بالدرجة الأولى، تصف «مرارة أن تكون محكوماً بالعيش في بلاد تفتقد الشرط الإنساني، مدفوعاً بأمنية امتلاك مجرّد شقة صغيرة في بلدك، تستطيع أن تمكث فيها وقتما تشاء، وتفعل فيها ما تشاء».
ومن تلك «البلدة الأخرى»، عاد صديقنا إلى القاهرة ليمارس «حياة طبيعية»، بدأ خلالها بترتيب أوراقه، وتعبيد الطريق الشاق، لوضع خطوة أولى جيدة تتناسب مع طبيعته الشخصية وطريقته في الحياة، بعد تلك التجربة الخانقة. من هنا ربما، وكمحاولة للتعويض عما عاشه، امتلك صديقنا قدرةً على الانفتاح، وشبك روابط قوية مع أجيال أدبية مختلفة، متجاوزاً الجغرافيا المصرية. «لديّ صداقات عميقة مع أدباء شباب من مصر، ومن مختلف أنحاء الوطن العربي. لدي خصوصاً صداقة مع مجموعة من الأدباء اليمنيين، ممن استطاعوا كسر إطار المحلي، والخروج بأدبهم إلينا، مثال الشاعرة والروائية نبيلة الزبير، والشاعر والروائي علي المقري». فهو يجد في شغلهما واجهة جيدة، تليق بتمثيل الأدب اليمني الحديث.
باستثناء «البلدة الأخرى»، لم يقع إبراهيم عبد المجيد في فخ الكتابة بأفكار مسبقة. «في الغالب، أشتغل ذاهباً خلف إشارات وعلامات ضبابية غامضة، تظهر لي وأسير على هواها. لا تبدو تلك العلامات وضاحة في بادئ الأمر، لكنّها لا تلبث أن تأخذ لنفسها خطاً وشكلاً روائياً». وبناءً عليه تظهر روايته كمن تكتب نفسها بنفسها. فهو لا يعتمد على خطة كتابة، أو جداول بيانية، تخبره بالخطوة التالية. قد تكون تلك مجرد أسئلة تبحث عن إجاباتها الخاصة، و«أنا فرد أقام طويلاً وسط بيئة محكومة بالاغتراب، ومحفِّزة على الأسئلة».
يعترف صاحب «الصياد واليمام» بأنّه ابن مرحلة تربى فيها كـ «ناصري حتى النخاع». فقد اشتدّ عوده على مفاهيم الاشتراكية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، وفكرة الحرية، منتظراً قدوم «الأيام الوردية»، لكنّه نهض فجأة مع جيله من طرقات هزيمة 1967، وما تلاها من انكسارات وانهيارات عمّت كافة المستويات السياسية، والاجتماعية، والثقافية. «تحول المناخ نتيجة لهذا إلى واقع كابوسي رأسمالي متوحش، أكل الأخضر واليابس، ونجح في سلخ المثقف عن واقع مجتمعه، جاعلاً إياه مقيماً في فلك دائرة معزولة، كأنّه غير مؤهل لإحداث أي بادرة تغيير في قواعد اللعبة الطارئة».
الانكسارات التي مر بها الروائي الاسكندراني على أكثر من مستوى، لم تعقه عن اجتراح طرق روائية تمكنه من تقديم أعماله على نحو مغاير في كل مرّة. لعلّ هذا ما يبدو واضحاً في عمله الروائي الأخير «في كل أسبوع يوم جمعة»(2009) التي اعتمد فيها على عالم الشبكة العنكبوتية، وخصوصاً «غرف الدردشة»، بما تقدّمه من حياة بديلة. في ذلك الفضاء المفتوح، ينسج الروائي شبكة علاقات بين نماذج بشرية مختلفة. يخرج منها بحكاية عن تحولات المجتمع المصري خلال السنوات الثلاثين الماضية.
تحوّلات أحالته إلى كائن يحاول القفز على مشكلاته الفعلية، والتسلي عنها بأيّ بديل. «هذا لم يكن سهلاً»، يقول ابراهيم عبد المجيد واصفاً اشتغاله على روايته الأخيرة. يشير إلى أنّه بذل جهداً كبيراً في تتبع تلك اللغة الجديدة المُستخدمة في عالم الإنترنت والتماهي معها، «عبر تتبع العشرات من المواقع الاجتماعية، وتحليل لغة الخطاب المستخدمة فيها، وهذا كي تأتي لغة الرواية واقعية ومقنعة، لا لغة مصطنعة، لا معنىً حقيقياً لها، ولا تتطابق مع اللغة المستخدمة فعلياً في تلك المواقع».
وربما دفعه هذا الوجود الاضطراري في عالم المواقع الاجتماعية، إلى خلق علاقة دائمة معها، لم تنقطع بعد الانتهاء من الرواية. فقد صار لديه حساب على موقع فايسبوك، ومنه يتواصل يومياً مع أصدقائه وقرّائه. حتى إنّ جزءاً توثيقياً كبيراً من المادة المكونة لكتابه الصادر حديثاً «لكل أرض ميلاد ـــــ أيام التحرير» («أخبار اليوم»)، أتى بها من حسابه الخاص على موقع التواصل الاجتماعي الشهير. على حائطه، رصد النقاشات التي كانت تدور طوال أيام الثورة. «لا أحد يستطيع أن ينكر الفائدة الكبيرة التي صارت مثل هذه المواقع الاجتماعية توفرها للشباب»، يقول عبد المجيد. «ألم تنطلق ثورة يناير من على صفحات فايسبوك؟».



5 تواريخ

1947
الولادة في الإسكندرية

1969
حصل على جائزة القصة القصيرة من نادي القصة في الإسكندرية

1996
فازت روايته «البلدة الأخرى» بـ «جائزة نجيب محفوظ» التي تمنحها «الجامعة الأميركية في القاهرة»

2004
جائزة الدولة للتفوق في الآداب

2011
يوثّق أيام ثورة «25 يناير» في كتابه «لكلِّ أرض ميلاد ــــــــ أيام التحرير» (أخبار اليوم)