ما الذي تحتاج إليه كليات العلوم الإنسانية في العالم العربي؟ أين هو دورها من العلوم الحديثة؟ هل ثمة حاجة ملحة إلى تحديث المناهج الاجتماعية في مقاربة الظاهرة الدينية؟ «نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية» (دار الساقي ـــ 2011) يستكمل العلامة الراحل محمد أركون في أطروحته الأخيرة مشروعه الفكري، طارحاً سلسلة أسئلة إشكالية لا تتعلق فقط بحاجة المراكز العلمية في عالمنا العربي إلى تطوير المناهج وتحديثها فحسب، بل يرفد أيضاً المعجم العربي بمصطلحات جديدة وكاشفة تغطي جزءاً من العجز المفهومي الذي نعانيه. وإذا أجرينا إطلالة سريعة على ابتكارات صاحب «من الاجتهاد إلى نقل العقل الإسلامي» على المستوى العدة الاصطلاحية المستخدمة، يمكن الخروج بحقل من الدلالات الهامة، من بينها اجتراح أركون للمفاهيم الآتية: الجهل المرسَّخ مؤسساتياً، العقل المنبثق الجديد، السياج الانغلاقي الحديث، العصر الفقهي السكولائي. وفي ما يتعدى كثافة المصطلاحات، يجبرنا أركون على معالجة الإشكالية الآتية: لماذا يخاف العقل العربي من المقارنة بين الديانات الإبراهيمية؟ وأي دور للخطاب الديني/ السياسي في تكريس سوسيولوجيا الجهل؟ الأطروحة التي عربها هاشم صالح، افتتحها بمقدمة تكشف عن الـ«لا مُفَكَّر» فيه في العالم العربي، سواء لجهة المقارنة بين الإسلام والمسيحية واليهودية، أو لجهة تفكيك الانعطافات التاريخية لـ«عقل ما بعد الحداثة» الذي يستبدله أركون بـ«العقل المنبثق الجديد الصاعد». يدرس أركون ما يسميه «المجال الإبراهيمي» ـــــ هذا المصطلح ابتكره الكاتب بالشراكة مع الأب يواكيم مبارك. ويشرّح العصر الكلاسيكي الإسلامي، وأسباب انهياره عند العرب، كاشفاً عن العوامل التاريخية والبنيوية التي أدّت إلى سيطرة السياج السلفي الانغلاقي، على مدى قرون.
ويخلص أركون إلى أنّ الإسلام المعاصر يعاني قطيعتين: الأولى مع فتوحاته الفكرية السابقة، والثانية مع الحداثة الأوروبية منذ القرن السادس عشر إلى اليوم. وفي ظل انتصار الإسلام الطرقي والصوفي والشعبوي، احتكر الأصوليون النطق باسم المقدس. وخطورة هؤلاء بحسب أركون، تكمن في تكفير التيار الحداثوي، وتكريس المسلمات الانغلاقية، وخصوصاً بعد نشوء أنظمة ما بعد الاستقلال، رغم أنّ التاريخ الإسلامي شهد «بقعاً صغيرة للحرية».
يستخدم أركون عبارة «تأميم الدين» ـــ أي تأميم الإسلام ـــ ليحيل إلى الدور الخطير الذي أدته المؤسسة السياسية بدءاً من عهد الأمويين، وغلبة الاتجاه الأرثوذكسي، بعد موت ابن رشد وانتصار الغزالي. ومع تراجع الفكر النقدي في الفضاء الإسلامي، دخلت أوروبا في عصر الأنوار، وبدأت معركتها بمقارعة المسيحية الغربية وتفكيكها. وما إن دشّن إيمانويل كانط طريق التجديد المعرفي عبر المواءمة بين الدين والعلم، حتّى تعاقب العقل العلمي/ التجريبي في الميادين والعلوم كافة. فما الذي أنتجه العرب في فترة الكانطية؟ هنا، يحيلنا أركون إلى محمد بن عبد الوهاب الذي عاصر فيلسوف التنوير الأكبر، ويقارن بينهما، ليس على صعيد الحقبة التاريخية نفسها فقط، بل على مستوى التداعيات وامتداداتها الجنينية والمعاصرة.
يعود صاحب «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل» إلى العصر الكلاسيكي الإسلامي. الإسلام التعددي، عنده، لم يكن بعيداً عن مشاكل العلاقة بين الدين والعلم، وهو السبّاق في هذا المجال، لكن ما الذي حدث ولماذا بُتِّر العقل النقدي في الإسلام، فيما نهض في أوروبا؟ يعالج الكاتب هذه الإشكالية عبر طرحه لمصطلح سوسيولوجيا التقدم والتراجع، شارحاً مجمل العوامل التي أوجبت حال النكوص التدريجي، أي أنه يضع إشكاليته في عمق المسببات التاريخية والسياسية والدينية والمجتمعية والثقافية التي أقصت الإسلام عن العقل النقدي/ السجالي.
على المستوى التطبيقي، يسلك أركون في منهجيته المقارنة مسالك متعددة. ورغم الحضور الكثيف للمقارنات بين الإسلام والمسيحية باعتبارهما «شهدا تلك المواجهة الصراعية التوترية الخصبة بين مسلمات العقيدة والمسلمات الفلسفية»، إلّا أن صاحب «معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية» لا يكتفي بجدلية التوفيق بين الدين والفلسفة عند ابن رشد من جهة وتوما الأكويني من جهة أخرى، إذ إنه يدرس ظاهرة «الجهل المرسَّخ مؤسساتياً» في العالم العربي والإسلامي الذي يقابله الرد العلمانوي المتطرف في أوروبا.
لا يتوانى أركون عن توجيه النقد البّناء إلى الرأسمالية الغربية، والسياسات الدولية وعقل ما بعد الحداثة. ونقده هذا يطاول السلوك السياسي والثقافي للغرب، بالنسبة إلى الدوائر الحضارية الأخرى، تحديداً منطقة الشرق الأوسط والإسلام العربي. وتحت عنوان «السياج المغلق للروح الحديثة»، يفكك صاحب «الإسلام، أوروبا، الغرب رهانات المعنى وإرادات الهيمنة» الخطاب الرسمي والثقافي الغربي، معتبراً أنه يعاني من معضلة كبرى تتمثل في غياب سياقات الأنسنة. بمعنى أنّ الحداثة الأوروبية أفضت إلى نوع من الكولونيالية الجديدة، فوسعت الشرخ بين عالم الشمال وعالم الجنوب. وهذا الافتراق تفاقم مستواه مع توسع التساؤلات الغربية عن هذا الآخر/ المسلم الذي وصل إلى ذروته عقب أحداث الحادي عشر من أيلول الدرامية.
تحتل ثنائية الإسلام والغرب الجزء الأكبر من أطروحة أركون، والمقارنة بينهما تطاول البنى الثقافية والدينية والسياسية والأخلاقية. ومن أجل التحقق من إشكالياته، يرصد صورة الآخر عند كلا الطرفين، ويصل إلى نتيجة مفادها أن «الآخر لم يعد يحظى بالاهتمام في السياقات المعاصرة»، بل إن هذا الآخر دخل في أزمة، نتيجة مؤشرين: سيطرة العولمة المُفرغة من النزعة الإنسانية، وتكفير الإسلام الأصولي لكل ذات مفارقة. لكن أركون لا يفقد الأمل، وإن بدا شديد الطوباوية. ها هو يقترح وساطة ثقافية، يمثلها ثلاثة أعلام عند الديانات التوحيدية، هم: ابن رشد، ابن ميمون، توما الأكويني. يستعين أركون مجدداً بريكور صاحب الكتاب الشهير «الذات كآخر»، آخذاً على الغرب، المتفوق، عدم معاملته للآخرين كذات، وطبعاً، يسير الخطاب الأصولي على الخطى نفسها مع فارق أدوات الإقصاء.
يختتم أركون أطروحته بالتحدث عن علاقته الذاتية/ الإنسانية بالأب يواكيم مبارك والمستشرق لويس ماسينيون، وهذا الاختيار لم يكن اعتباطياً. كلاهما شاركا أركون النزعة الإنسانية.
«نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية» أطروحة تكتسب صفة التأسيس بالنسبة إلينا، نحن العرب، بسبب الحاجة الملحة إلى إدراج علم الأديان المقارن في المؤسسات العلمية، وضرورة تخطي القوالب الجاهزة في مسألة الحوار الاجتراري/ التقليدي بين الديانات التوحيدية. كذلك فإنّها أطروحة تأسيسية لناحية دورها في تأصيل الأدبيات الإنسانوية في التراث الإسلامي والعودة إليها. فهل يتحرر العرب والمسلمون ممّا يسميه أركون «الفشل المتتابع للعقل العلمي»؟ وهل يتخلى الغرب عن تشكيل العدو الديالكتيكي في ظل التعرجات التي تمر بها النيوليبرالية؟