تونس | في تونس، تتّجه بوصلة الصراع حالياً إلى ساحة الإعلام. جذوره تعود إلى تركة نظام زين العابدين بن علي الذي حوّل الإعلام إلى إحدى أهمّ أدوات نظامه الاستبدادي. لكن قبل أسابيع من انتخابات المجلس التأسيسي التي ستجري في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، تبدو المعركة مصيريّة بالنسبة إلى الديموقراطيّة الناشئة.
في ظلّ صمت حكومة الباجي قائد السبسي، اندَلعت أخيراً معركة جديدة على الساحة التونسيّة، هي معركة «إصلاح الإعلام». أما طرفاها الرئيسيّان فهما: «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال» مدعومةً من نقابة الصحافيين التونسيين ونقابة الإعلام والثقافة من جهة، وجمعية ونقابة مديري الصحف والمؤسّسات الإعلاميّة من جهة أخرى. أمّا محور المعركة الأساسي فهو مشروع قانون يقضي بإنشاء هيئة تشرف على القطاع السمعي البصري، وقد اتُّهمَت «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال» بإعداده، علماً بأنّها هيئة استشاريّة يرأسها الصحافي كمال العبيدي الذي فصله النظام السابق من «وكالة تونس أفريقيا للأنباء».
وقد لاحظ المتابعون تزايد الانتقادات الموجّهة إلى الهيئة من وسائل إعلام اشتهرت بقربها من نظام بن علي، إذ تتالت بنحو شبه يومي المقالات المهاجمة لهيئة كمال العبيدي على الصفحة الأولى من جريدة «الشروق». هذه اليوميّة «الأكثر انتشاراً في تونس» ـــ كما تعرّف عن نفسها ـــ لم تتردّد في استعمال لغة النظام السابق، ووصل بها الأمر إلى حدّ التلميح إلى «ارتباط محتمل» لكمال العبيدي بـ«أجندات أجنبيّة» (تقرير نشر يوم الأحد 18 أيلول/ سبتمبر) في إشارة إلى اضطرار الأخير إلى الهجرة والعمل في الولايات المتّحدة، حيث أسهم في التعريف بقضيّة الصحافيين التونسيين لدى المنظّمات الإعلامية الدوليّة. كذلك لم تُقصّر قناتا «هنيبعل» الخاصّة (المملوكة لرجل الأعمال المقرّب من بن علي العربي نصرة) و«نسمة» (ورد اسم مؤسّسيْها نبيل وغازي القروي ضمن قائمة الشخصيات التي ناشدت بن علي الترشّح إلى انتخابات 2014 قبل سقوطه) في تنظيم حلقات حواريّة عن الموضوع. وكانت الهيئة قد رفضت المشاركة فيها بسبب عدم توازن تركيبة الضيوف الذين كانوا جميعاً، بمن في ذلك منشّطو الحوار، من منتقديها، وفق ما صرّح لـ«الأخبار» الصحافي وعضو الهيئة هشام السنوسي.
أهمّ الانتقادات التي وُجّهَت إلى الهيئة تتعلّق بمشروع قانون إنشاء هيئة عليا للإشراف على الإعلام السمعي البصري وتحقيق أهداف الثورة. هذا القانون لم تتردّد نقابة مديري المؤسّسات الإعلامية (وكل أعضائها حصلوا على رخصهم بسبب قربهم من النظام السابق) في وصفه بـ«سالب للحرّيات، ومكبّل للمؤسّسات وناسف لأهداف الثورة». وأضافوا في بيانهم أنّ للهيئة المُقترحة «صلاحيات زجريّة تسمح لها بغلق تلفزيونات أو إذاعات، وأنّ هذا الإجراء غير معمول به في أيّ بلد كان». إلا أنّ نظرة سريعة إلى موقع «المجلس الأعلى للسمعي البصري في فرنسا» تُثبت عكس ذلك، إذ إنّ المجلس يملك صلاحية «سحب رخصة» وسيلة الإعلام التي تخالف القانون.
الانتقادات لم تقتصر على مناصري بن علي وأعوانه، وإن كان هؤلاء أعلاهم صوتاً، إذ إنّ عمر صحابو (صاحب مجلّة «المغرب» التي أُغلقَت بسبب جرأتها في عهد بن علي) صرّح لجريدة «الشروق» بأنّ هيئة كمال العبيدي هي التي أعدّت «مشروع المرسوم المتعلّق بالإعلام السمعي البصري»، مضيفاً أنّ هذا المشروع «أعاد الجانب الزجري والقمعي لإعلامنا». لكن هشام السنوسي ـــ أحد أعضاء الهيئة ـــ ينفي ما ذكره صحابو، مشيراً إلى أنّ من أعدّ القانون هو اللجنة الفرعية للإعلام المنبثقة عن «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديموقراطي». وأضاف أنّ «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال» تعاونت مع هذه اللجنة إلى جانب نقابة الصحافيين التونسيين ونقابة الإعلام والثقافة وغيرها. كذلك تعلّقت بعض الانتقادات ببعض أعضاء الهيئة، خصوصاً الصحافي رضا الكافي الذي اتُهمّ بسرقة مقالات غيره.
المحلّل والإعلامي لدى قناة «نسمة»، سفيان بن حميدة، كان أبرز المنتقدين لـ«الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال»، إذ كتب منذ أسابيع مقالاً في صحيفة «الأولى» انتقد ما سمّاه «بارونات إعلام» ما قبل 14 كانون الثاني (يناير) الذين استفادوا من النظام السابق، في سياق دفاعه عن حقّ الجريدة في التمتّع بالإشهار والتوزيع. إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من توجيه النقد الشديد إلى الهيئة بسبب عدم إشراكها أصحاب القنوات والإذاعات الخاصّة في مناقشة مشروع القانون. وقد أكّد لـ«الأخبار» أنّه لم تجر استشارتهم قبل تصويت «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديموقراطي» على القانون. وهو ما نفاه عضو الهيئة هشام السنوسي، إذ أوضح أنّ «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال» عقدت لقاءً مع نقابة مديري المؤسّسات الإعلامية، لكن رئيسة النقابة آمال المزابي رفضت أن تعطيَ موقفاً من تصريح العربي نصرة، أحد الأعضاء الأساسيين في النقابة، بأنّه «حرّ في فعل ما يشاء بقناته»، ما عطّل إمكان مواصلة التشاور بشأن مشروع القانون على حدّ تعبيره.
ومن الانتقادات التي تكرّر توجيهها إلى «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال» أنّها لم تستشر أهل الاختصاص من الخبراء. وذُكر اسما خبيريْن تونسيّيْن (الصادق الحمّامي ورضا النجّار) قيل إنّهما لم يُستشارا، وهو الأمر الذي نفاه لنا أستاذ القانون مصطفى باللطيّف، مؤكّداً أن الخبيرين حضرا ندوة وورشة عمل وأبديا ملاحظاتهما. بل ذكر باللطيّف قائمة طويلة من الخبراء التونسيين والدوليين الذين استُشيروا. كذلك أوضح أنّه جرت استضافة ممثّلين عن هيئات الإشراف على السمعي البصري في كلّ من فرنسا وبريطانيا وبلجيكا، التي أمدّت الهيئة بوثائق استلهمت منها عملها. وكشف أيضاً أنّه زار رومانيا للتعرّف إلى تجربة إصلاح الإعلام هناك أثناء فترة الانتقال إلى الديموقراطيّة. وتابع أنّ مشروع القانون نال استحسان منظّمات دوليّة معروفة بنزاهتها وحرصها على حرّية الإعلام مثل منظمة «مراسلون بلا حدود».
عبد الكريم الحيزاوي، الأستاذ المحاضر في معهد الصحافة والخبير في مجال التشريعات الإعلامية، أوضح لـ«الأخبار» أنّ مشروع القانون المُنتَقَد يُعتَبر جيّداً ومطابقاً للمعايير الدوليّة. واستشهد بآراء شبكة «آيفكس» لمراقبة حرّية التعبير وبخبراء من هيئة الإذاعة البريطانيّة «بي بي سي». ونفى الحيزاوي أن يكون مشروع القانون ذا طابع زجري، لأنّه سيُطبّق في نظام ديموقراطي. وأشار إلى إمكان استئناف قرارات الهيئة عبر القضاء الاستعجالي. كذلك شدّد على ضرورة التصديق على هذا القانون، معتبراً أنّ الفراغ القانوني الحالي «كارثة».
إلا أنّ سفيان بن حميدة اتّهم أعضاء «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال» بالتسّرع في عرض مشروع القانون على التصديق خدمة لـ«طموحات شخصيّة»، إذ أشار إلى ما يتيحه مشروع القانون من امتيازات لأعضاء الهيئة (الامتيازات نفسها التي تمنح للنوّاب). وهو بذلك يشير إلى أحد فصول المشروع الذي ينصّ على أن تختار «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة...» من سيشغل مهمّة الإشراف على القطاع الإعلامي في المرحلة الانتقاليّة المقبلة، إلى أن يُنتخب رئيس جمهوريّة جديد وبرلمان يتكفّلان رسمياً بتعيين أعضاء الهيئة الرقابية الجديدة، حيث استنتج أنّ أعضاء «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال» سيكونون المستفيدين من الفصل المذكور، وأنّهم سيُختارون في المرحلة الانتقاليّة.
وفي تعليق لها على اتّهامات بن حميدة، نفَت رئيسة النقابة الوطنيّة للصحافيين التونسيين نجيبة الحمروني وجود طموحات شخصيّة لأعضاء الهيئة. وقالت لـ«الأخبار» إنّها لا تستغرب اتّهامات مماثلة من بن حميدة الذي سبق له أن «دافع عن المنقلبين على المكتب التنفيذي الشرعي لنقابة الصحافيين في مؤتمر الفدرالية الدوليّة للصحافيين في إسبانيا قبل سنة». يُذكَر أنّ النظام السابق نظّم انقلاباً داخل النقابة بعدما انتهجت قيادتها خطاً مستقلاً وأصدرت تقريراً انتقدت فيه الاعتداء على الحرّيات الإعلامية، كذلك رفضت تزكيّة ترشّح بن علي في انتخابات 2009.
بدوره، رأى هشام السنوسي عضو «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال» أنّ هناك محاولة لإبعاد النقاش عن جوهره، إذ أشار إلى أنّ من يقودون حملة التشكيك في الهيئة هم من «مناصري بن علي» ومن أصحاب رؤوس الأموال الذين انتفعوا بتراخيص لفتح وسائل إعلام خاصّة. واستنتج أنّ «لبّ الموضوع» يكمن في أنّ هؤلاء يشعرون بأنّ مصالحهم غير المشروعة باتت مهدّدة، فانبروا لحمايتها من خلال التشكيك في نزاهة الهيئة وكفاءتها. ويرجّح السنوسي أن يكون السبب المباشر لغضب أصحاب القناتيْن الخاصّتين («هنيبعل» و«نسمة») هو مطالبة «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال» بوقف «الإشهار السياسي» الذي تقوم به بعض الأحزاب السياسية في القناتين. وذكّر بأنّ الإشهار السياسي ممنوع في جلّ الدول الديموقراطيّة و«من ضمنها فرنسا التي منعته منذ سنة 1990». وأضاف أن الأمر باختصار يتعلّق بـ«بنى قديمة لا بدّ لعمليّة الإصلاح من أن تَطالها حتّى نتمكّن من بناء إعلام جديد».
إلا أنّ رئيسة نقابة مديري المؤسّسات الإعلاميّة آمال المزابي (ورد اسمها ضمن قائمة الشخصيات التي ناشدت بن علي الترشّح لولاية جديدة) نفَت أن يكون للأمر علاقة بمصالح ضيّقة، وأكّدت «مبدئيّة موقفهم ورفضهم عودة الوصاية على الإعلام».
وتعليقاً على مواقف منتقدي الهيئة قال عبد الكريم الحيزاوي إنّ من «المفارقة» أن يهاجم من استفاد من نظام بن علي وسانده أعضاء «الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتّصال» الذين ناضل جلّهم وضحّى من أجل إعلام حرّ. الكرة الآن في ملعب الحكومة التي يُفترض أن تصدّق القانون وتصدره في مرسوم رسمي.