لا يصدّق الجزائريون أنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وافق أخيراً على رفع يد الدولة عن الإعلام المرئي والمسموع، الذي احتكرته لحوالى نصف قرن. ففي آخر اجتماع له منذ أسبوعين، أقرّ مجلس الوزراء رسمياً قانون إعلام جديداً يتيح للمرة الأولى إنشاء قنوات تلفزيونية وإذاعية خاصة. خطوة الرئيس بوتفليقة التي صنّفتها المعارضة في سياق التجاوب مع التغييرات التي تشهدها المنطقة، وتفادياً لحدوث ثورة شعبية، عدّتها الأحزاب الموالية للسلطة بمثابة تجاوب من الرئيس مع الاقتراحات التي قدمها الإعلاميون والأحزاب للجنة الإصلاحات السياسية التي ألّفها الرئيس، وعملت على جمع مقترحات الأحزاب وعدد من الشخصيات الوطنية، بينما قاطعتها أخرى.
وبعيداً عن الجدل حول الدوافع الحقيقية للخطوة، فإن اللافت أنّه في أقل من أسبوع على إعلان القرار التاريخي، نقلت صحيفة «الجزائر» المستقلة عن مصادر في وزارة الاتصال أن أكثر من 32 جهة أعلنت نيتها إنشاء محطات تلفزيونية وإذاعية خاصة، رغم أن الرئيس لم يفرج بعد عن الهيئة المخوّلة بمنح التراخيص وتحديد دفتر الشروط التي تحكم إنشاء القنوات الخاصة!
ولا يكاد يمر يوم من دون أن تتصدر عناوين الصحف الجزائرية أنباء عن نية رجال أعمال بارزين، ومحسوبين على السلطة، ومؤسسات صحافية خاصة إنشاء قنوات تلفزيونية وإذاعية في مشهد يعكس توق الجزائريين إلى الانفتاح على الفضاء المرئي والمسموع، وتوديع خمسة عقود من احتكار الدولة لـ«الإعلام الثقيل».
صحيفة «الوطن» المستقلة الناطقة بالفرنسية، كانت السباقة إلى كشف طموحاتها، فقد أعلن مجلس إدارة المؤسسة إنشاء قناة تلفزيونية وأخرى إذاعية. وذكر بيان المؤسسة أنّ المحطة التلفزيونية «ستكون وطنية تقترح نظرة جديدة إلى معالجة الخبر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي». ولم يفت المؤسسة الإشارة إلى أنها تنوي الاعتماد على الكفاءات الجزائرية في مشروعها الجديد.
وبعد ساعات قليلة، جاء دور مجلس إدارة مؤسسة «الخبر» التي أعلنت مباشرة استعداداتها لإطلاق قناة تلفزيونية ومحطة إذاعية ذات طابع إعلامي إخباري. وأشار رئيس مجلس إدارة «الخبر» زهر الدين سماتي في تصريح نشرته الصحيفة إلى أن مقر القناة والمحطة جاهز. وأضاف إنّ «البث التجريبي سيكون السنة المقبلة». ودافع عن انفتاح حقيقي وسريع للإعلام المرئي والمسموع، مضيفاً: «لا مبرر لبقاء القطاع المرئي والمسموع البصري منغلقاً، ولا تفسير مقنعاً للتخوف من فتحه. لم يعد مجدياً بقاء وسائل الإعلام الثقيلة في يد الحكومة وحدها. يجب فتح القطاع، فعدم مواكبة التحولات العميقة، والثورات الشعبية والاحتجاجات، وعدم النزول عند رغبة المواطن الجزائري يعدّ ضرباً من ضروب الغباء».
لكنّ زهر الدين سماتي عارض فكرة فتح القطاع لأصحاب السلطة المالية والسياسية فقط، مشيراً إلى أنه «يجب أن يتعدى الأمر ذلك، ليكون في مصلحة المهنيين» مضيفاً «لا أتمنى أن تتكرر تجربة الصحافة المكتوبة المستقلة التي لم تنجح فيها إلا بعض العناوين».
وتبرز الأحزاب المعارضة مثل «جبهة القوى الاشتراكية» التي يتزعمها المناضل حسين آيت أحمد، و«حزب التجمع الجزائري من أجل الثقافة والديموقراطية» الذي يرأسه سعيد سعدي في مقدمة الأحزاب التي ظلت تنتقد إحكام الدولة سيطرتها على وسائل الإعلام الثقيلة. وتسود شكوك بأنّ السماح لهذه الأحزاب بإنشاء قنواتها الخاصة سيجلب «المتاعب» للسلطة من دون شك.
كذلك، تبرز المخاوف من الخطوط الحمر التي قد ترسمها السلطات من خلال هيئة المراقبة المرتقبة، وخصوصاً بعد سلسلة تجارب سابقة «مرّة» أولاها تجربة قناة «الخليفة تي. في» الخاصة التي أنشأها الملياردير الجزائري المسجون في منفاه بلندن، عبد المومن رفيق خليفة عام 2002. وبعد انفجار ما سمِّي «فضيحة القرن» في الجزائر التي هوت بمجمع الخليفة، تحولت القناة بعد القطيعة بين مالكها والسلطات الجزائرية إلى محطة معارضة شرسة، تبث برامج ونشرات إخبارية معارضة للنظام الجزائري، ومشككة في إنجازات الرئيس بوتفليقة. ولم يحجّم صوت القناة، سوى قرار توقيف بثها لاحقاً ضمن سلسلة المتابعات القضائية الدولية التي استهدفت مجمع الخليفة.
ومنذ الاستقلال عام 1962، لم يعرف الجزائريون سوى قناة وحيدة يسمّونها نكايةً بـ«اليتيمة»! وفشلت كل الضغوط والمبادرات التي أطلقها الإعلاميون الجزائريون والأحزاب في إقناع النظام برفع الاحتكار عن المجال المرئي والمسموع، أسوة بما حدث مع الصحافة المكتوبة في بداية التسعينيات. لكن الأزمة التي غرقت فيها الجزائر طيلة أكثر من عقد كامل، اتخذتها السلطات الجزائرية ذريعة لتحكم قبضتها على «الإعلام الثقيل».
وعندما تقلّد بوتفليقة الحكم عام 1999، لم يتأخر في إعلان رفضه فتح المجال المرئي والمسموع، بل ذهب الى حد تحميل الصحافة الخاصة مسؤولية الأزمة التي عاشها بلد المليون ونصف مليون شهيد. وعلّل موقفه بالقول إنّه لن يسمح بتكرار ما سماها أخطاء الصحافة المكتوبة التي دخل معها في صراع، بلغ حد وصفه لها بـ«صحافة طيابات الحمام»، في إشارة إلى تعمّدها إثارة الفتن. بل إنّه حمّلها علناً في أحد خطاباته مسؤولية الإساءة لجهوده في تحسين صورة الجزائر في الخارج، كما ظل يردد مراراً.
إذاً، 11 سنة مرت منذ اعتلاء الرئيس بوتفليقة الحكم في الجزائر، وقد ظل متمسكاً بموقفه، يرفض التنازل وفتح «الفضاء» الجزائري. وعلى رغم إصرار بعض الأحزاب الموالية للسلطة على أنّ فتح القطاع المرئي والمسموع كان قراراً إيجابياً وشجاعاً من الرئيس، إلا أن الكثير من الإعلاميين والصحافيين الجزائريين، إلى جانب أحزاب المعارضة يجزمون بأن الخطوة لم تكن لتتحقق لولا «تهديد» الربيع العربي الذي أجبر السلطة على الانصياع لمطلب الانفتاح الإعلامي.
ويعكس الصحافي الجزائري خضير بوقايلة هذا التيار في تصريح لـ«الأخبار»: «ليس مهماً الآن أن يفتح المجال المرئي والمسموع أو يبقى مغلقاً إلى حين. قطار التغيير الديموقراطي انطلق، وستكون الجزائر إحدى محطاته لا محالة»، فيما عزا آخرون تراجع الرئيس بوتفليقة عن موقفه إلى اقتناع السلطات بحتمية الانفتاح الإعلامي على الفضاء، أمام تعالي الأصوات السياسية والصحافية التي حمّلت السلطات مسؤولية ما تعتبره حملات تتعرض لها الجزائر باستمرار من قنوات عربية وأجنبية، وفي مقدمها «الجزيرة» و«العربية» والقنوات الفرنسية التي اشتكى منها الرئيس والوزراء مراراً، حتى إنّ وزير الخارجية مراد مدلسي، ووزير الاتصال ناصر مهل طلبا منذ فترة من الصحافيين الجزائريين «الدفاع عن بلدهم ضد الحملة التي تتعرّض لها من القنوات الفرنسية»! بينما ألقت بعض الأقلام الصحافية المسؤولية على عاتق السلطة التي حرمت البلاد من قنوات تلفزيونية تنافس الفضائيات الأجنبية، في بلد لا يكاد يخلو فيه بيت أو عمارة، ولا حتى أحياء الصفيح من الصحون اللاقطة!