كان يمكن فرنسوا أبو سالم أن يموت في باريس التي أثّرت بعمق في وعيه ومساره الفنّي، بعيد ثورة الطلاب في ١٩٦٨، حين كان يخطو خطواته الأولى مع أريان منوشكين في «مسرح الشمس». كان يمكنه أن يموت في بيروت التي درس فيها خلال الستينيات، وكان يعود إليها بين حين وآخر مندهشاً وعاشقاً، أو في برلين التي أمضى فيها ردحاً من الزمن يخوض غمار التجربة الأوبرالية. كان يمكنه أن يموت في أي مكان آخر من العالم، لكنه اختار رام الله لتكون محطّته الأخيرة. هذا الفنّان التائه، المولود في بيت لحم (١٩٥١) مثل عيسى الناصري، كيف له أن يموت خارج فلسطين التي اقترنت بها حياته الشخصية والفنيّة؟
والداه اختارا أرض فلسطين هرباً من جحيم الحرب العالميّة. لوران غاسبار، الشاعر والطبيب المجري الأصل، الفرنسي اللغة، العربيّ الهوى، الذي عاش وعمل وناضل في فلسطين قبل أن يطرد منها إلى تونس، والنحاتة الفرنسيّة فرانسين غاسبار التي لاحقت ابنها في كل مراحله الإبداعيّة. فرنسوا «غاسبار»، ولد بالمصادفة في فلسطين، لكنّه بقي فلسطينيّاً بقراره واختياره. صار فرنسوا «أبو سالم». انتمى إلى تلك الأرض، هو الكوسموبوليتي بالوراثة والتربية. اعتنق لغتها وثقافتها وقضيتها المضنية، بين كرّ وفرّ، عشق وجحود، يوتوبيا وإحباط... فإذا به أحد أبرز مؤسسي المسرح الفلسطيني الحديث الذي يجمع المؤرخون على ربط ولادته الرسميّة بمسرحيّة «العتمة». قدّمها فرنسوا عام ١٩٧٣ مع حفنة من الشبان الواعدين في فرقة «بلالين» التي اتخذت من حديقة منزل غاسبار في القدس مقراً لتمارينها. بعدها أسس «بلا ــ لين» فـ«صندوق العجب»، قبل أن يبصر النور على يده، عام ١٩٧٧ في القدس، «مسرح الحكواتي» الذي سيكون منعطفاً في تاريخ الثقافة الفلسطينية.
«باسم الآب...» كانت باكورة الفرقة التي استقرّت بعد سنوات من التيه في «سينما النزهة» المحترقة في القدس، فصارت «مسرح الحكواتي». نذكر الوجوه المميّزة التي تحلّقت حوله، وقد تعرّفنا إليها على الخشبة في باريس غالباً بفضل شريف الخزندار أو أريان منوشكين: جاكي لوباك، عامر خليل، إدوار المعلّم، راضي شحادة، هيام عبّاس، إيمان عون، إبراهيم خلايلة... هؤلاء أعطوا المسرح العربي، بقيادة أبو سالم، بعض أجمل أعماله، من «محجوب ومحجوب» (١٩٨٠)، إلى «كفرشمّا» (١٩٨٧)، مروراً بـ«جليلي يا علي»، و«حكاية العين والسنّ»، و«ألف ليلة وليلة في سوق اللحامين»... اعتمد أسلوبه على الارتجال والعمل الجماعي، واتخذ من عنصر الفرجة أساساً، جامعاً بين التقاليد الشفاهيّة العربيّة والكوميديا ديلارتي والمسرح ما بعد البريختي. هاجس ردم الهوّة مع الجمهور من خلال الفرجة الشعبيّة، جعل من فرنسوا أبو سالم أحد روّاد المشروع «الاحتفالي» العربي الباحث عن مسرح بديل ذات جماليّات خاصة، إلى جانب الراحل وعبد القادر علّولة، والطيب الصديقي وروجيه عسّاف وحسن الجريتلي...
ثم تفرّق اعضاء الفرقة، بعدما واجهت التجربة أزمة نموّ طبيعية، فكانت نهاية مرحلة في تاريخ الحكواتي وتاريخه الشخصي. تلك القطيعة أصابت فرنسوا كاللعنة، وسيسترجعها في عمل أوتوبيوغرافي لافت بعنوان «موتيل». في تلك المونودراما التي سجّلت عودته، أواسط التسعينيات، إلى المسرح العربي، يحكي معاناته وتاريخه وعزلته بين قطيعة وأخرى. خلال فترة القطيعة خارج القدس، كان قد خاض في أعمال ضخمة جمعت ممثلين عرباً وأوروبيين مثل «البحث عن عمر الخيّام، مروراً بالحروب الصليبية» الذي عكس تأثره بأمين معلوف، أو «جلجامش» على موسيقى قدسي إرغونير. وحقق نجاحاً أوبرالياً في سالزبورغ مع رائعة موزار «الخطف في السراي»، و«كارمن» بيزيه، و«روميو وجولييت» غونو...
حاول صديقنا مراراً أن يبتعد عن فلسطين، لكن عبثاً. دائماً كان يعود، كما فعل منتصف العقد الماضي ليؤسس «مسرح الحكواتي الجديد». قدّم داريو فو وبريخت وتشيخوف ويانيس ريتسوس. في السنوات الأخيرة مسرح شعر محمود درويش من خلال «ذاكرة النسيان»، واقتبس ألفريد جاري فكان «أبو أوبو في سوق اللحامين»... لكنّ «في ظلّ الشهيد»، تجربته الأخيرة التي قدّمها في بيروت الربيع الماضي، هي الأكثر تجسيداً لخلل السنوات الأخيرة وتساؤلاتها. إنّه عمله الوصيّة، وخلاصة خلوة باريسيّة درس خلالها علم أعصاب الدماغ في «معهد العلوم التجريبيّة». ذلك «الرنين المغناطيسي» في الرأس الذي كان يتحدّث عنه فرنسوا، قاده هذه المرة إلى النهاية الحاسمة. لن يعرف أحد كيف قرّر أن يقفز من أعلى تلك العمارة غير المكتملة في الطيرة. لنقل إنّ أبا جميل (كما كان يوقّع رسائله الإلكترونيّة لنا) ذهب للقاء صديقه الشاعر حسين البرغوثي الذي سبق أن قدّم له «جلجامش.. لا لم يمت». «فعلها فرنسوا» كتب نجوان في إيميله القاتم صباح الأحد. ليست المرّة الأولى، لكن محاولته نجحت للأسف هذه المرّة. ثم جاء إيميل علاء: أبو نزار انطفأ أيضاً ليلة أمس. تبّاً لهذا الأحد الأسود في تاريخ الثقافة الفلسطينيّة.
35 تعليق
التعليقات
-
وبعض خلائق الناس داء كداء البطن ليس له دواءيا ايها المجهول ( المحترم ) .. كفاك تلويح وايحاء بأفكارجميعنا يعرف ماالهدف من ورائها ، واعلم ان من ظن انه الاذكى قطعا هو اغبى المخلوقات .. انت تطلب من بيار ابي صعب ان يأتي لك بدليل على اصول الفنان فرانسوا ابو سالم ان كان لديك كلام اخر فأتينا انت به واثبت لنا يهودية عائلة المرحوم الصديق فرانسوا والا فاصمت فلقد سئمنا من الجبناء الذين يدعون الاصالة وكأن الدماء الفلسطينية والانتماء للارض هو حكر عليهم فقط ..! انا اطلب منك ان تأتيني بأصول هذا المخرج وللعلم : انا اعرف فرانسوا ابو سالم شخصيا وعن قرب، و كنت في منزله الكائن في رام الله في حي الطيرة قبل اسبوع من وفاته وجميع من ليس لديهم ( عقدة قبول الاخر ) كذلك يعرفون من هو فرانسوا ابو سالم فكفانا نهش حتى في الاموات ..!! صدق من قال وبعض خلائق الاقوام داء كداء البطن ليس له دواء وعجبي ..
-
الى بيار ابي صعبتوقف عن مجادلة هذا المجهول لأنك لن تغلبه ، من الصعب ان يتغلب المتعلم على الجاهل او ان يتغلب المثقف على نصف المثقف ، لا تنسى سيد بيار في اي عصر نحن نعيش ؟ انت اكبر من هذه الترهات وشكرا لقلمك من كل محبي واصدقاء المرحوم فرانسوا ابو سالم الفلسطيني حتى النخاع .
-
وكأنني قد متُّ قبل الآنوكأنني قد متُّ قبل الآن … أَعرفُ هذه الرؤيا ، وأَعرفُ أَنني أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ . رُبَّما ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ ما أُريدُ … سأصيرُ يوماً ما أُريدُ.
-
نحن انفاس العالم ليش كل شي حلو بيموت في بلادنا ؟!!!!!!! نتمنى العمر المديد لبيار ابي صعب ولصحيفة الاخبار
-
هيك الصورة احلىلماذا هذا التنفيح في المعلومات يا سيد بيار ومن اين حصلت على معلوماتك؟ لم استطع ان اجد هذه المعلومات في اي مكان اخر. اقرأ مثلا ان والد فرانسوا هو يهودي مجري، وانه كان اسيرا في معسكر اعتقال فرنسي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، اذا فهو لا يمكن ان يكون قد فر الى فلسطين هربا من جحيم الحرب كما تقول. اقرا ان والده هاجر الى اسرائيل في 1954. لا اقرأ غير هذا. كيف يكون ابن مهاجر يهودي ولد في بيت لحم في الضفة الغربية عام 1951 اذا كانت الضفة الغربية في حينه جزءا من المملكة الاردنية؟ لم تقل لنا كيف ولد ابن مهاجرين يهود في بيت لحم في الضفة الغربية. تقول ان والده طرد من فلسطين ، من طرده الحكومة الاردنية؟ ثم اقرا في مكان اخر ان والده هاجر الى اسرائيل عام 1954.هذه المعلومة ساقطة من المعلومات التي تقدمها للتعريف بالمرحوم. انت يعني تعطينا الخلاصة ام ماذا؟ قل لنا اين ناضل والده في فلسطين وبماذا ناضل بالضبط؟ لا استطيع ان اجد هذه المعلومات في مكان اخر. اين حصلت على هذه المعلومات؟ رحمه الله على كل حال لانه اختارنا واختار جيرتنا.الجار عندنا له حقوق علينا.
-
حقا تبا لهذا الاحد الاسودوداعا فرانسوا وداعا ايها الاب الحبيب سوف تفتقدك فلسطين كما تفتقد الام الى اولادها الصادقين ، ارجوك ان تسلم على كل الاحبة الذين غادرونا دون حتى ان يودعونا سلم على محمود درويش وعلى غسان كنفاني وعلى جوليانو مير خميس وعلى ادوارد سعيد وعلى جبرا ابراهيم جبرا وعلى فدوى طوقان وعلى ناجي العلي وعلى كمال ناصر وعلى كل الشهداء على انبل الاولاد اولاد فلسطين وداعا . شكرا لصحيفة الاخبار على الاهتمام باولاد فلسطين الكبار، شكرا لك بيار ابي صعب .
-
يوم أسود في تاريخ الثقافةيوم أسود في تاريخ الثقافة الفلسطينة وليلة حالكة على أطلال التعايش السلمي السوري ...على وقع الرحيل الفلطسيني دوى رصاص غادر ليخترق قلب شاب ثلاثيني ذنبه أنه ابن مفتي الجمهورية السورية (هل يعني لنا ذلك شيئاً؟!!!!!!!!!!!!!!!) أيها السادة: عامنا محاصر بالدماء والموت يتربص بنا عند مفترق الطرق .. من منكم يعرف كيف يمكن لنا أن نكون أكثر شجاعة حتى نواجه كل هذا الخراب؟ ليتني أملك شجاعتك يا فرانسوا أبو سالم