القدس | كان فرنسوا يشكو، أمام زوّاره القليلين، الارتفاع المتزايد لعمارات حي الطيرة التي أخذت تحجب الأفق عن الشقة التي يسكنها في رام الله منذ سنوات قليلة. في حركته بين فرنسا وفلسطين، كان يعود إلى رام الله، بابتسامة مكسورة وقبول مرير بالنكران الذي يتعرض له منذ رجعته إلى فلسطين، منتصف العقد الماضي. شقته في الطبقة الثانية، لم تكن مناسبة للقفز منها. صعد إلى السطح، ولعله من هناك تسلّق إلى ظهر عمارة أعلى ليقدم مشهده الأخير بلا متفرجين. أيّ رشاقة لممثل في الستين ليقوم بحركة كهذه، على غفلة من رام الله الغارقة في تناقضاتها وركودها الملغوم؟ كان ذلك عند الخامسة والنصف من عصر السبت. عثر سائق جرافة على الجثة بعد ساعتين، بينما كان يزيح بعض «الطمم». ومع وصول الشرطة الفلسطينية، انتبه أصدقاؤه الذين كانوا يبحثون في محيط العمارة متوقعين شيئاً من هذا القبيل. باولا فونفيك رفيقته الفرنسية (وشريكته في كتابة «في ظل الشهيد») كانت قد اتصلت مستنجدة لتطلب التوجه إلى منزل فرنسوا، لأن الأخير أبلغها بقراره إنهاء حياته أثناء مكالمة إلكترونية على «سكايب».
تستعيد باولا لـ«الأخبار» ذلك الحديث الأخير مع صديقها عبر الفضاء الافتراضي. كان محبطاً من مآل الوضع الفلسطيني، وخصوصاً بعد قصة إعلان الدولة، تقول. وتضيف إنّه بات مهووساً في الآونة الأخيرة بفكرة أن الشعب الفلسطيني لن يتحرر من القبضة الإسرائيليّة... وكان يطمح إلى نقل ما تعلّمه عن آليات عمل الدماغ إلى الفلسطينيين، كي يهتدوا إلى أشكال مبتكرة للنضال من أجل الحريّة. وذكرت كيف أخبرها فرنسوا أنه «لم يعد يعرف إلى من ينتمي، وأنه فقد الأمل كلياً». وكشفت عن أن ثمة وصية كتبها وتركها في الشقة قبل أن يخرج للمرّة الأخيرة.
مرحلة كاملة من تاريخ الحركة المسرحية داخل فلسطين المحتلة، كان تقفز مع الفتى الستيني الذي جعلته أقدار الحياة وأقدار المسرح فلسطينياً. الابن الثالث لأم فرنسية وأب طبيب مجري يعرفه أهل القدس وبيت لحم باسم «الدكتور غاسبار»، كأنما تقمص المأساة الفلسطينية، كأنما احتج بجسده، كأنما وضع حداً لمعاناة لم تكن شخصية تماماً. الابن الثالث لـ«الدكتور غاسبار» نشأ بين الفلسطينيين في القدس، وبدأ أولى تجاربه المسرحية في حي الشيخ جراح من بيت العائلة حين كان والده طبيباً في «المستشفى الفرنساوي» القريب.
أعمال الحكواتي جاءت ـــــ خصوصاً في السبعينيات والثمانينيات ـــــ مشحونة بتأثيرات أريان منوشكين و«مسرح الشمس» الباريسي. كان فرنسوا أكثر اطلاعاً من زملائه الفلسطينيين، على ما يحدث في مسارح العالم، بحكم ما أتيح له في باريس من فرص. نشأة محظوظة نسبياً لفرنسوا في كنف والدته الفنانة التي رعت نشأته المسرحية، ودعمت أعماله الأولى، ووالده الشاعر لوران غاسبار الذي أخذ فرنسوا اسم «أبو سالم» من إحدى الشخصيات الموجودة في عالمه الشعري، ووشى هذا الاسم دائماً بهويته الملتبسة التي تجمع متاهة «الغرب والشرق» وقضية فلسطين.
غاسبار في الأوراق الرسمية و«أبو سالم» على المسرح. كان فرنسوا نموذجاً لانفتاح الهوية الثقافية الفلسطينية، فلم تمنعه أصوله من أن يكون أبرز ممثلي المسرح الفلسطيني في الثمانينيات. وإن كان تعرض لنكران لاحق من زملاء له وتلاميذ، فذلك مرده إلى أخلاقيات «الحركة المسرحية» وتناقضاتها الذاتية التي تفاقمت بعد أوسلو، الأمر الذي لا يقلل من مهنيته العالية وتفانيه كرجل مسرح. لقد كان يثير الإعجاب والألم وهو يعرض مسرحيته الأخيرة «في ظل الشهيد» بعدد محدود جداً من الحضور الأصدقاء لا يتناسب مع تاريخه.
بالطبع، لم يكن فرنسوا أبو سالم من نوعية عبد اللطيف عقل ووعيه الراديكالي المقاوم، وهو ـــــ أي فرنسوا ـــــ وإن مثّل المسرح الفلسطيني لسنوات في الداخل والخارج، فقد قدم تمثيلاً «معتدلاً»، قابلاً للنقاش، وهو ما يبرزه عمله الأخير «في ظل الشهيد». ما يثير الإعجاب في العمل تقديم تجربة فرنسوا الخاصة مع المعاناة النفسية والعصبية بأداء تمثيلي ساحر قد يفوق أداءه كممثل في «ذاكرة للنسيان». والضعيف في العمل هو معالجته المتسرّعة لـ«العمليات الاستشهادية»، بل إقحامها في قصته الشخصية.
كان فرنسوا فناناً ساحراً، لكن مقولته الفكرية والسياسية لم تكن أقوى عناصر عرضه. لا يمكن الذهاب أبعد في غصة الوداع. أي شيء يمكنه أن يخفّف قسوة ارتطام جسد الفنان بأرض ملغومة بقسوة الاستعمار والآمال المجهضة؟