لا أحبّ الرثاء. نادراً ما لا يكون مبتذلاً، ونادراً ما يكون المرثي أهم من الراثي. إلا أنّ وفاة فرنسوا أبو سالم تستوجب الكتابة. لن أكتب كم كان فناناً وإنساناً ضحى من أجل الثقافة الفلسطينية. كلنا يعرف هذا، كما يعرف الجميع أنه من أهم المسرحيين الفلسطينيين ومن رواد هذا المسرح. فرنسوا المجدد والمشاغب والوقح والجريء والمسرحي الفذّ، حضوره اكتسب أهمية كبيرة في الحركة المسرحية والثقافية الفلسطينية. لن أكتب عن لقائنا الأخير والجملة الأخيرة والنظرة الأخيرة، فهذا هو الابتذال بعينه. سأكتب أنني عايشت فرنسوا في عملين، الأول «جلجامش.. لا لم يمت» في باريس عام 2003 والثاني «ساحة الورد» عام 2007. ولا بدّ من أن أعترف بأننا لم نكن على وفاق خلال التجربتين. حتى إنّ الأمور في باريس وصلت بنا إلى احتدام وتهجمات أحدنا على الآخر، وانقطعنا إلى أن التقينا في «ساحة الورد». أذكر يومها أنّ فرنسوا اتصل بي وقال: «ما رأيك أن تنضم الى طاقم العرض، وبهذا يمكننا أن نرمي الماضي ونصفّي القلوب ونفتح صفحة جديدة؟».
بهذه الجملة انتصر فرنسوا عليّ وعلّمني درساً في الحياة. كانت دعوته لي للعمل معه مفاجئة جداً، وخصوصاً أنّني كنت قد صرحت في أحد اللقاءات بعد مشاركتي في «جلجامش.. لا لم يمت»، بأنني لن أعمل معه بعد الآن. كان فرنسوا إنسانياً كلياً، يحب حتى النهاية ويتعصب حتى النهاية، كان مليئاً بالمفاجآت السارة وغير السارة. كان فناناً مع كل ما يرافق ذلك من الأمزجة. لذلك اتصل ودعاني إلى العمل. كنت وقتها مراهقاً أراد أن يثبت للعالم أنّه لا يخاف أحداً ولا يهاب أحداً؛ أنا تصرفت بغباء، أعترف، وهو تصرف كما يتصرف فرنسوا: على غير المتوقع.
اليوم، تمر أمامي صور وذكريات كثيرة: التعارف في حيفا، البيت في باريس، ابنه جميل، غرفة المراجعات، صالة العرض، الجدالات، بكاء البعض، صراخ الآخرين، عيناه الثاقبتان، جنونه المسرحيّ، أغاني الشيخ إمام والكثير الكثير. أذكر نقاشاتنا ثم خلافنا وأكتب اليوم: «آسف فرنسوا». لستُ آسفاً على ما مررنا به من تجارب، لست آسفاً على أننا اختلفنا؛ فهذه تجارب إنسانية وفنية طبيعية في النهاية لأنك أنتَ أنتَ وأنا أنا.
نمْ بسلام، فقد عملت وأنتجت وأفرحت وأغضبت وعلّمت ولم تمرّ علينا كأنك لم تكن؛ بصمتك واضحة وحضورك سيمتدّ في المستقبل كما يمتد في الراهن والماضي. عنادك على صنع مسرح فلسطيني رغم حالة فلسطين يستأهل الانحناء والشكر. سنذكرك طويلاً... طويلاً جداً.
* مسرحي فلسطيني