لِمَ أَول ما سمعت بغيابك، صرت أريد أن أخال موتك تضامناً مع شهداء الربيع العربي؟ عيناك الودودتان، وقامتك المنحنية على العالم كما تنحني نبتة عند ترابها، رجعت بك إليّ، أنا الغريب في أرض لم تعد غريبة. كأني بك قبل أن تنحني أكثر لتتشبع بالتراب ورائحته، تساءلت: كيف يطوي الثرى شباناً يافعين، ونبقى نحن وانحناءاتنا نعفر أقدامنا بتراب الحيرة؟! كأني بك كنت تقف في الناصرة وتنظر جهة سوريا مشيعاً بعينيك الطيبتين أطفالاً طاشوا كفراشات طاشت تحت المطارق. هنا سُحقت الأجنحة والألوان، وكان الصمت سنداناً عربياً له قطر يمتد من محيط مائج إلى خليج مائع... صمت... يحيّر لب الآدمي.. ويحز بشفرته عنق الصارخ.
تذكرتك كثيراً هذه الأيام يا طه محمد علي... أيام الموت الشامي العاصف، الموت تحت سكاكين الجلادين وسواطير البرابرة... وقد نفر الدم من حنجرة المغني.
تذكرت خطواتنا معاً في حديقة إنكليزية، قبل عشرين سنة، أنا بطيش الشباب وأنت بحكمة الطيش، حديقة ظللتها أشجار سامقة. قرأت لي قصائد عن السنونو الذي يحز الهواء بطيرانه. ورأيت فوق رأسك سماءً أخرى تظللك بغيوم خفيفة تبعتك من الناصرة.
يا للشاعر سارداً ومغنياً ورفيقاً في موقعة ليس فيها أعداء سوى نفسه، وسماؤه لا تطيق خطواته تحت سماء أخرى. طه محمد علي، وهكذا تندرنا قليلاً لما رحنا نقلب اسمك ونعكسه ليخرج لنا من الأوديسا الفلسطينية صوت آخر سميناه محمد علي طه.
حدثتني عن حانوتك القديم وعن المقعد الشاغر الذي تركه وراءه شاب يافع اسمه محمود درويش، مقعد في حانوت تلطخ سقفه بأجنحة العصافير... وقصائد بريئة.
رحت أسمعك بشغف الذي يبتكر صوراً أخرى لفلسطين الميؤوس منها في خطابات السياسيين وشعرائهم المفوهين... كلامك هبّ عليّ برائحة كتب ومقتنيات أرستقراطية. تلك فلسطين شخص واحد بلهجة خافتة وحنين خافت. فلسطين شخص يتمشى عصراً في زقاق حرسته مئذنة في الناصرة. سألتني إن كان لي جدّ فلسطيني يفسر في وجهي حزن الغريب. وأنْشَدَنا من أعفاني من سؤالك: يا غريب إذا ما مررت بي ومررت بك... إلخ... إلخ.....
كلمات شاعر له لحية حمراء تضج بالفراشات. وإلى أن ينتهي الكيان الصهيوني نهايته الدرامية الأكيدة... فكل غريب فلسطيني بالضرورة.
لقاء شخص مثلك، يا طه، ملزم بإعالة عدوه، مجرد لقاء شخص كهذا.. كان مفارقة حياتي لأسبوع، قبل أن تسافر وأقول لك. مجرد وجودك هناك دليل على فشل الفكرة التوراتية لفلسطين، وجودك الدليل الأكثر إحباطاً لدولة إسرائيل، مجرد وجودك هناك في الناصرة بلاغة إنسانية هائلة.
تودِّع فلسطين إلى يابستها ويدك لا تزال ممدودة إلى البحر، وشقيقك الهائم في بحار العالم لا يصل إليها. وإذ يودعك عدوك، يودعك ولا يتمكن من دفنك في البحر. وجودك الطبيعي في فلسطين قصيدة غريبة في لغتها.
في المطار أول ما وصلتَ، قلت لك بمرح إنني أحببت شعرك. وفي المطار بعد أسبوع، ودعتك صامتاً كمن يودع أباً لن يراه.
* شاعر سوري مقيم في لندن