أبرز عشرة أفلام يستضيفها ضمن «البانوراما الدولية» حطّت على الكروازيت، بدءاً بشريط الافتتاح «شجرة الحياة» لتيرينس مالك الذي نال «السعفة الذهبية»، وصولاً إلى فيلم الختام «ميلانخوليا» للارس فون تراير. من الطبيعي أن يغرف «مهرجان بيروت الدولي للسينما» من «كان»، بوصفه «قلعة سينما المؤلف». الأفلام التي تستعيدها «البانوراما الدولية» تعكس بامتياز انشغالات الراهن المعاصر وهمومه، إلى جانب كونها تحمل تواقيع سينمائيين مرموقين. ويبرز ذلك عبر تيمة تحضر في غالبية الأعمال، وإن اختلفت طرق مقاربتها، وهي القلق الوجودي الطاغي على حياتنا المعاصرة.


يفتتح تيرينس مالك التظاهرة الليلة مع «شجرة الحياة». اختار السينمائي الأميركي أسلوباً ملحمياً، يُخَلخِل كليشيهات السرد السينمائي. يعود بنا إلى بداية الخليقة، مخصّصاً 11 دقيقة من أجمل مشاهد الفيلم ــــ وأكثرها إبهاراً ــــ لتصوير الانفجار الكبير ونشأة الكون. لا شكّ في أنّ أي محاولة لتلخيص الشريط أشبه بالمهمة المستحيلة. هو ينطلق من قلق وجودي يؤرّق والدَيْن بعد وفاة أحد أبنائهما. لكنّ القصّة تتراجع لتتحوّل إلى مجرد خلفية لمنحى تأملي تجريدي يسائل أسرار الخلق والحياة والموت. يعزز مالك ذلك برؤية إخراجية بالغة التعقيد، وهذيان سردي محكم. نجد القلق الوجودي والانشغال الميتافيزيقي ذاته في شريط الختام «ميلانخوليا» للارس فون تراير.


ظُلم هذا العمل في «كان». الجدل في تصريحات صاحبه الاستفزازية («الأخبار»، 20 أيار/ مايو 2011)، صرف الأنظار عن شريط يُعدّ من أنضج ما قدّمه المعلّم الدنماركي. تدور الأحداث في فلك التأملات الهاذية حول ماهية الوجود، ومستقبل الإنسانية، انطلاقاً من قلق حبيبين يستعدّان لزفافهما. لكنّ فون تراير سرعان ما يطلق العنان لسرد هذياني يربط مخاوف بطليه وهواجسهما بتأثيرات كوكب غامض يدعى «ميلانخوليا»، يستعدّ للارتطام بالأرض. لكنّه لا يسلك منحىً ملحمياً هنا، بل تلقي الروح الإسكندنافية بظلالها على الشريط، ليغرق تدريجاً في البرود، والقتامة، والتشاؤم.
على تخوم القلق ذاته، تنسج السينمائية الاسكتلندية لين رامسي عملها «يجب أن نتحدّث عن كيفن» (7و 9/10). رغم أجوائه المتوترة والقاسية، يبقى الشريط أبعد ما يكون عن العوالم القاتمة لفيلمي مالك وفون تراير. أبهرت النجمة تيلدا سوينتون النقّاد بأدائها في هذا العمل، من خلال شخصية إيفا، وهي أم عُصابية، تناضل من أجل تربية ابنها المراهق المشاغب كيفن. وقد نحتت المخرجة الاسكتلندية من خلال العلاقة الإشكالية بين الأمّ وابنها بورتريهاً نفسياً واجتماعياً، ينضح بالسخاء والدفء الإنساني، رغم ما يحيط به من عنف وتوتر.

قلق من نوع آخر ينقله الإيطالي المشاكس ناني موريتي في شريطه «لدينا بابا» (7 و8/ 10)، مع النجم ميشال بيكولي في أحد أجمل أدواره. يؤدّي هنا دور كاردينال يُنتخب لمنصب بابا الفاتيكان، لكنّ الشك يستبد به، ويدفعه إلى التنازل عن البابوية، خشية ألا يكون في مستوى التحدّي. ضمن أهمّ خيارات «البانوراما الدولية» فيلمان آخران تجمع بينهما تيمة رسم بورتريهات نفسية لشخصيات قلقة وإشكالية. في «الجلد الذي أسكنه» (10/ 10 ــــ عرض غالا/ «بلانيت أبراج»)، يغوص الإسباني بيدرو ألمودوفار في عُقَد بروفيسور في الطب (أنطونيو بانديراس) يقرّر التخصص في الجراحة التجميلية، إثر تعرّض زوجته لحروق شوّهتها.
لقد أبدع ألمودوفار في نحت بورتريه نفسي معذّب، مطلقاً العنان لصنعته الشكلانية. يقدّم هنا عملاً أجمع النقاد على أنّه الأكثر نضجاً وإبهاراً منذ رائعته Talons Aiguilles (1991). المنحى النفسي ذاته يطبع جديد غاس فان سانت «بلا راحة» (8/ 10). يقدّم صاحب «ميلك» (2008) هنا بورتريهاً مزدوجاً لشخصين، لا يجمع بينهما شيء في الظاهر: أنابيل شابة جميلة وجذابة، لديها حبّ جارف للحياة، لكنّها تعاني من السرطان. إينوك شاب بكامل صحته، لكنّه فقد أي رغبة في الحياة منذ وفاة والديه. علاقة حب عاصفة تنشأ بين البطلين، ويغوص فان سانت في هلوساتهما، في رؤية إخراجية قائمة على الغموض والإبهار، تذكّر إلى حدّ كبير بأجواء رائعته «فيل» («السعفة الذهبية» ــــ 2003). هذا ليس كلّ شيء على البرنامج الذي استطاع اللعب على غواية الأسماء الشهيرة... للمرة الأولى ربما، يجتمع هذا الكمّ من عمالقة السينما في صالات بيروت.





«مهرجان بيروت الدولي للسينما»: الافتتاح 7:00 مساء اليوم، «مسرح كركلا» ــــ حرش تابت (بيروت).
تتواصل العروض مساء كلّ يوم حتى 13 تشرين الأول (أكتوبر) في «أمبير سوديكو» (بيروت).
للاستعلام: 01/616706
www.beirutfilmfoundation.org