«بقيت غاوي بعز الجرح أنا ما ابكيش.. بقيت عارف أطلع من ضلوع الفقر لقمة عيش..». تتردد هذه الكلمات في ثالث أفلام إبراهيم البطوط إلى أن تصير أغنية. وإلى أن نصل إلى تلك الأغنية في النهاية، ستكون الأبواب مشرعة أمام التجريب وكل ما يزيد من ترسيخ تجربة هذا السينمائي المصري الذي نشاهد عمله ضمن «مهرجان بيروت الدولي للسينما» (9 و12/10).
مع كلمات الأغنية، ستكون فرقة «مسار إجباري» ضائعة لا تعرف ما الذي ستفعله بها. وفي الوقت نفسه لا يمكن اعتبار الفيلم مبنياً كما لو أنه قطعة من موسيقى الجاز. يمضي السيناريو في هذا السياق مع تشعبات وتفرعات سرعان ما تعود إلى خط ناظم يجمع العوالم والشخصيات، مقدّماً فيلماً متماسكاً يقول ما يودّ قوله. البطوط لم يشتغل «حاوي» وفق سيناريو مكتوب. كان السيناريو في رأسه على حدّ تعبيره «الحوار لم يكن ارتجالياً بالمعنى المفهوم، لكن كان يُتّفق عليه أثناء التصوير». والنتيجة هي الفيلم نفسه الذي صوّر في الإسكندرية وكان كل ممثليه من المدينة. وهنا يمكن المضي مع خطوط السرد وخروج الشخصية الأولى من السجن. تتبعها الكاميرا وهي تقول لنا كل شيء، ثم تأتي الشخصية الثانية المتمثلة في ذاك الذي يمشي في شوارع الإسكندرية برفقة حصانه الذي يكون على شفير الموت، ثم ذاك العائد إلى الإسكندرية بعد غياب طويل، فيسكن في «بانسيون» صغير، مروراً بابنته التي لا تعرفه ويتواصل معها بعد أن يسعى إلى مقابلتها من خلال العمل، وصولاً إلى الراقصة التي تتعرض لما تتعرض له من إذلال وسوء فهم. فيلم البطوط مفتوح على كل الاحتمالات، ستلتقي الشخصيات وترتبط، وتكون حركية الأحداث توالدية، والسرد غير خاضع لسياق تقليدي، والأجواء كفكاوية. ثمة تدوير في الأحداث، يؤسّس للشخصيات بحيث تأتي فاقعة المعالم، وحمالة عوالم خاصة. ستمضي أحداثها ومصائرها في سياق المعالم الواضحة لها. شخصية ذاك الرجل وحصانه كافية لوضعنا أمام جماليات بصرية. وكل ما يقدمه هذا الرجل من أحداث هو علاقته بالحصان، والشغف به، وهو يمضي به في شوارع الإسكندرية ثم يصل به البحر حيث يغسله. ومع هذا، يمكن لالتباس الوثائق التي ينبغي للخارج من السجن أن يسلّمها أن تأخذ مساراً بوليسياً يظلّ معلّقاً من دون أن يكون ذلك إخلالاً بما نشاهده من متعة بصرية خاصة.