«أنا مش فنان شارع، ولا بتاع غرافيتي». بهذا التصريح الخطير يستقبلنا جنزير (29 عاماً) على حائط مدوّنته. بالفعل، فإنّ هذا المصري الأسمر ذا الشعر المنفوش والقوام النحيل، أكثر من فنان غرافيتي. تتقاطع في تجربته السياسة بالنيو ميديا، وفنون التصميم بنبض الشارع. قبل ثورة «25 يناير»، «كان مصمّماً قدّ الدنيا»، أما بعد الثورة فصار «شحاداً» ــــ كما يقول ــــ يكرّس وقته لرسم الحراك السياسي والاجتماعي في «أمّ الدنيا». أخيراً، حلّ جنزير ضيفاً على بيروت بدعوة من «بيت الصنائع». ألقى محاضرةً في هذا الفضاء البديل، عرض فيها دور مواقع التواصل الاجتماعي في «خلق فنّ شارع ثوري»، مقترحاً تجربته الخاصة مثالاً... تلك التجربة التي بدأت على النت، ثمّ اجتاحت جدران القاهرة.
ما زال كثيرون يتذكّرون «دليل كيف تثور بحداءة»... ذلك الكتيّب الذي طُبع بقليل من الحبر الأسود ــــ والكثير من خفّة الدم ــــ شرح لشباب الميدان كيفية مواجهة رجال الأمن والوقاية من القنابل المسيّلة للدموع... خطوط الدليل وحروفه تذكّرنا بأسلوب جنزير. لكنّ المصمم الشاب يرفض الاعتراف بأنّه كان العقل المدبّر وراءه، «فالثورة لم تنتهِ بعد». لهذا، ربما، يرفض أن يُسِرَّ للمجتمعين في «بيت الصنائع» باسمه الحقيقي. فـ«جنزير» «اسم حركي»، وليس مجرّد لقب «كول».
أثناء زيارته القصيرة لبيروت، خطر لجنزير أن يترك تذكاراً على أحد جدران المدينة. نزل إلى شارع الحمرا مع فنان الغرافيتي الطرابلسي علي. على حائط رمادي، طبع تخطيطاً بسيطاً يقول: «قريباً اتحاد الشعوب العربيّة». إلى جانبه، رسم علي دركيّاً شاباً يفتح قميص بذلته الرماديّة المرقّطة، لتظهر، مطبوعةً على صدره، عبارة «أ♥ الفساد». العمل الذي يسخر بوضوح من شعار «أحبّ الحياة» الشهير، ومن فساد السلطة اللبنانيّة بكامل مستوياتها، استفزّ القوى الأمنيّة، فأمرت في صباح اليوم التالي بطَلْي التصميمين بالأسود، في سابقة رقابيّة لم تشهدها بيروت من قبل. باختصار، ناموا مطمئنين، فالرقابة تسهر حتّى على جدران المدينة، وبيروت لا تتسع لتجربة فناني الغرافيتي المصريين، في تحويل الـ«ستريت آرت» إلى فعل مواطنة واحتجاج. في محاضرة «بيت الصنائع»، أخبرنا جنزير كيف نشط مع فناني غرافيتي آخرين، لنشر رسوم تكريمية لشهداء «ميدان التحرير» على كلّ جدار في القاهرة. وحين أمرت السلطة العسكريّة بمسح رسم للشهيد إسلام رأفت، كان ردّ جنزير، إطلاق دعوة إلى مبادرة صارت تعرف بـ«الغرافيتي العنيف». «بعد الثورة، شعرنا أنّ الشارع لنا. مسح اللوحة كان يعني أنّ ثمّة من يريد سرقة الشارع منّا»، يقول. ولأنّ الشارع مكسب لا يصحُّ التفريط به، احتلّ فنّانو الغرافيتي المكان. أعادوا رسم صورة إسلام رافعاً إشارة النصر هذه المرة. رسموا أكثر من غرافيتي عنيف «يهزّئ» فلول النظام. استولوا على حائط عملاق في الزمالك، رسموا عليه تصميماً ضخماً يحمل توقيع جنزير، ويجسّد دبابة تواجه «بائع عيش»، و... باندا حزيناً (أضافه فنان اسمه Sad Panda). مشروع جعل من عمل فنان الغرافيتي فعلاً مدنياً، تعاون على إتمامه الكنّاس في الزقاق المجاور، والناشط السياسي، والعامل، والمدوّن، وبائع العيش...
حدّثنا جنزير في «بيت الصنائع» أيضاً عن ملصق أصفر ساخر رسمه بعنوان «قناع الحريّة»، وهو «تحية من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى أبناء الوطن الحبيب»، كما تقول العبارة المطبوعة عليه. القناع هو في الحقيقة قناع تعذيب جلديّ أحمر، يكمّ فم تمثال ويعصب عينيه، في إحالة على «حرية مزوّرة» تعيشها مصر بعد سقوط نظام مبارك. نَشَر الفنان الملصق لأسبوعين على أحد المواقع، لكنّه لم يتحوّل ظاهرة شعبيّة إلا حين قرّر توزيعه في الشارع، عشية تظاهرة 27 أيار (مايو)، أو ما عرف بـ«الثورة الثانية». انتقال الملصق من الفضاء الافتراضي إلى الحيّز العام، أعطاه بعداً أكثر جذريّةً، وكلّف جنزير غالياً. انهال بعضهم على الملصقات تمزيقاً، وانقضّت الشرطة عليه لاعتقاله. «طلبوا مني الانتظار في سيارة البوليس، فقمت عبر هاتفي المحمول بنشر خبر اعتقالي على فايسبوك وتويتر». خلال ساعتين، انتشر الملصق على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم. كان جنزير لا يزال في سيارة الشرطة حين تحوّلت قضيته على الشبكة إلى قضيّة رأي عام. راح مسؤولون في السلطة العسكرية يتلقُّون اتصالات من ناشطين يطالبون بالإفراج الفوري عن المصمّم الشاب، قبل أن يكونوا قد تبلّغوا أمر اعتقاله بعد! في النهاية أُفرج عن جنزير، بعد أن تحوّل «قناع الحريّة» إلى شعار ورمز. وفي تظاهرات «ميدان التحرير» اللاحقة، طَبَعَه الشباب على القمصان، ورفعوه فوق ملصقات ضخمة.
تجربة هذا الفنان الميداني المشاكس تعيد تعريف العلاقة بين فنون الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي، ودور فنان الغرافيتي في اللحظات الثوريّة. «قناع الحريّة» لم يأخذ بعداً سياسياً ثورياً إلا حين نزل من الفضاء الافتراضي ليصير حقيقة معنويّة في الشارع، أي إعلاناً صريحاً ومباشراً و«وقحاً» عن الرفض. في هذا السياق يؤكّد جنزير: «عملي ليس نشاطاً سياسياً فحسب (...) إنّه محاولة لتحفيز كلّ من لا يزال رافضاً لفكرة نقد الحاكم والسلطة بالمطلق».

http://ganzeer.blogspot.com