في رواية «شارع داروين» («منشورات غاليمار»، 2011)، نصطدم بصورة مختلفة عن الجزائر التي نعرفها. نطّلع على تاريخ آخر يناقض الروايات الرسمية، يطعن في بعض مسلمات ما بعد ثورة التحرير، ويسافر بعيداً بحثاً عن أصوات الدياسبورا المتعدّدة.بعد وفاة أمه، يعود بطل الرواية يزيد إلى شارع داروين في حي بلكور الشعبي، وسط الجزائر العاصمة. هناك يستعيد بعض ذكريات الطفولة، بداية من سنوات الخمسينيات وصولاً إلى التسعينيات. يدخل في أجواء الثورة، وسطوة الجدة لالة سعدية، التي كسبت جاهاً ومالاً بفضل ماخور كانت تديره في إحدى القرى غرب الجزائر، وفيه ولد يزيد من أب مجهول. شخصية الجدة تستحوذ على النصيب الأهم من ذكريات البطل. يتذكرها في أدق تفاصيلها، ويتساءل باستمرار عن مكامن نجاحها في بسط سلطتها ومنطقها في مجتمع بطريركي، وعن علاقاتها مع القادة السياسيين في البلد آنذاك، ثم عن أسباب تجريدها من جل ممتلكاتها بعيد الاستقلال بحجة تطبيق سياسة التأميم.
حين وصل يزيد إلى شارع داروين قادماً إليه من الماخور، كانت معركة الجزائر قد بلغت أوجها. يتذكر بعض العمليات التي كانت تنفذها كتائب جيش التحرير وردود الفعل العنيفة التي بدرت عن السلطات الفرنسية. فترة لم يكن له فيها الكثير من الخيارات. تجنّد بسرعة في العمل السري إلى جانب المجاهدين، وكانت مهمته نقل الرسائل وبعض قطع السلاح. حينذاك، كان الحلم يكبر يوماً بعد آخر بتحرير البلد وبناء جزائر جديدة. لكن الخيبة حلّت سريعاً بعد سنوات قليلة على الاستقلال. يقول يزيد: «الآمال الكبيرة التي بناها الناس ذابت كالملح في الماء. كنت أبلغ حينها ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاماً. لم أكن أفهم الشيء الكثير في السياسة. لكنني أدركت أن الشقاء سيكون قدراً محتوماً علينا». هذا الشقاء سيتواصل لغاية التسعينيات، حين يحكي الراوي جزءاً من تجربة الدم ومسلسلات الاغتيالات التي كانت تنفذها الجماعات الإسلامية. عبثية حياة يزيد لم تتجسد فقط في سوداوية الواقع، بل أيضاً في حالة الشتات التي يعيش فيها إخوته وأخواته من أمه، الذين فروا جميعاً إلى أوروبا وأميركا بحثاً عن حياة أفضل، وبقي وحده يصارع ذكريات الماضي في الجزائر العاصمة.
تتقاطع سيرة يزيد، في بعض أجزائها، مع سيرة المؤلف. بطل «شارع داروين» أيضاً، وُلد عام 1949. هي ربما جزء من بيوغرافيا سريّة يرفض صنصال الإعلان عنها. ترصد خمسين سنة من تاريخ الجزائر المرصع بالخيبات. وتحكي أحلام جيل ما بعد الاستقلال المبعثرة، وتنتقد بصراحة الحكومات والسياسات المنتهجة منذ عام 1962.