القدس المحتلّة | المقاطعة الثقافية لإسرائيل مجال خصب للتأويلات والاجتهادات... وللتضليل والدجل أحياناً! صحيح أنّ المقاطعة أصبحت موضع إجماع في الفترة الأخيرة، إلا أنّها تبدو أكثر إشكالية في فلسطين المحتلة عام 1948، بسبب الخلط بين «الحقوق المدنية» في التعليم والصحة التي يقدمها الكيان الإسرائيلي لـ«مواطنيه» العرب مثلاً، وبين الثقافة كفعل رمزي يتجاوز قصة «المواطنة الإسرائيلية» التي ابتلي بها الشعب الفلسطيني الذي بقي في وطنه بعد احتلال 1948.
الندوة التي شهدتها حيفا أخيراً (راجع المقال أدناه) حملت عناوين رئيسية، مثل «خصوصية العمل الثقافي لدى فلسطينيي الداخل»، و«حركة المقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل». الكاتب هشام نفاع، الذي أدار الندوة، انطلق من زاوية سياسية معينة لتحديد محاورها الثلاثة: «علاقتنا كمجموعة وأقلية مع الأسئلة المتعلقة بالتمويل الحكومي، والخصوصية الثقافية للأقلية العربية في الـ 48، والسؤال الأوسع: ما هي الثقافة للفلسطيني، وهل تخضع لمعايير كالجغرافيا؟ مثل الحالة السياسية التي تعيشها المجموعة الفلسطينية هنا؟».
عمر البرغوثي تحدث باسم «الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل» ( PACBI) التي تسعى إلى وضع معايير خاصة للمقاطعة في فلسطين المحتلة عام 1948. «منذ 2004 ونحن نضع معايير لكل جزء الـ 67 وللعرب وللعالم. الآن نعمل على معايير خاصة بفلسطينيي الـ 48. لا يمكن تحقيق مقاطعة بلا معيار موضوعي».

لم يفت برغوثي التذكير بأن «فلسطينيي الـ 48 يُستغلَّون كجسر للتطبيع» في المهرجانات الإسرائيلية، إلا أن مداخلته التي امتازت بالمكاشفة بالغت ربما في «تفهّم خصوصية» فلسطينيي الـ 48: «الصناديق الحكومية الإسرائيلية كالبلديات يحق المطالبة بميزانياتها. الصناديق التي لا شروط سياسية عليها مثل «صندوق السينما» لا مشكلة عليها (!) نحن نقاطع الفيلم إذا تموّل عرضه في الخارج، نحن نميّز بين الإنتاج والترويج». هذا «التمييز» ـــــ على أهميته ـــــ يغفل كون الثقافة بحد ذاتها فعلاً رمزياً، ورأسمالاً رمزياً يخصّ أمة وثقافة كاملة، ولا يمكن التعامل معها كالخدمات البلدية مثلاً. إغفال ربما وقع فيه أنطوان شلحت الذي بدأ حديثه: «نحن مشوّهون، نحن عرب ناقصون وإسرائيليون ناقصون وفلسطينيون ناقصون». وطرح الناقد الفلسطيني تساؤلات إشكالية من نوعية: «لا نقاش على كوننا فلسطينيين، لكن حان الوقت للتساؤل بعد 63 سنة من النكبة: هل قبلنا الهوية الفلسطينية عن اختيار، أم أنّ الهوية الإسرائيلية مغلقة وقد رفضتنا؟». وتميّز شلحت بموقفه القاطع: «هناك قوى سياسية تؤمن بأنّ الحقوق المدنية هي المعبر الآمن إلى الحقوق القومية. أنا لا أومن بذلك. أنا مع الحقوق المدنية، لكنها لن تكون معبراً للحقوق القومية للفلسطينيين، لأنها متعلقة بتغيير النظام وطبيعة الدولة». إلا أنه عاد ليقول: «في ظلّ الخصوصيات والتشويهات والتعقيدات المختلفة، أنا أعيش هذا التناقض. لا أجد أي غضاضة في التوجه للمؤسسات الإسرائيلية، بما فيها تلك التي تقدم دعماً لنشاطاتنا الثقافية، شرط ألا تكون مرهونة بممارسة الرقابة الذاتية. لا غضاضة في التمويل (الإسرائيلي لفلسطينيي الـ 48) إن لم يصادر العقل (!)».
تحليلات شلحت المفرطة في واقعيّتها، لا تعطي وزناً كافياً لرمزية الأفعال الثقافية عندما يوافق على ضمها (رغم شروط مثل «عدم مصادرة العقل») إلى رزمة الخدمات المدنية التي يقدمها الكيان الإسرائيلي، مقابل الضرائب التي يجبيها. ولعل تعقيب الناقد إسماعيل الناشف في نهاية الندوة كان من أبرز ما قيل: «المقاطعة ستتحول إلى محاكم تفتيش فقط، إذا لم توضع ضمن نظام تحرري أوسع لتقويض النظام الإسرائيلي غير الشرعي. إن لم ترتبط المقاطعة بمشروع تحرري، فلا قيمة لها». بدا الناشف قاطعاً في رفضه لـ«استثنائية» فلسطينيي الـ 48 في مسألة المقاطعة الثقافية: «الـ 48 ليست استثناءً، أنا لا أشك بفلسطينيتي». مداخلة الناشف وبعض مداخلات الحضور بدت معاكسة لمسار الندوة وواقعيتها الزائدة.
طبعاً، لا يغيب هنا أنّ نتائج الندوة متوقعة بعض الشيء حين ننظر إلى الجهة المنظّمة التي هي «مسرح الميدان»، إلى جانب موقع «قديتا» الذي يشرف عليه زميلنا علاء حليحل. و«الميدان» التي هي جمعية مموّلة من «وزارة الثقافة» و«بلدية حيفا» الإسرائيليتين، يصعب عليها أن تكون شريكاً متوازناً في حوار حول المقاطعة الثقافية لإسرائيل. ولعل هذا الإدراك حدا بالمنظمين إلى نقل الندوة من «الميدان» إلى جمعية «المشغل» قبل وقت قصير من موعد عقدها. تأسيس «المشغل» على فكرة رفض التمويل الإسرائيلي، يقول إنّ المقاطعة الثقافية ممكنة، بل هي شرط لعمل ثقافي لا يهتك الهوية الوطنية، كما قال رئيس «المشغل» حبيب شحادة حنا الذي عَبَرَ تناقضات شخصية وموضوعية عدة قبل أن يبلغ هذه الخلاصة.