لعلّها من بين الشخصيات الروائية النادرة التي تفوّقت على اسم مؤلفها. شهرة «دون كيخوته» (1605) تتجاوز حضور ميغيل دي ثرفانتس (1547ـــ 1616) بمراحل. لغز هذا الفارس النبيل والمجنون، وربما الأخرق، خضع لتفسيرات كثيرة، أبرزها ما كتبه ميغيل دي أونامونو (1864ـــ 1936) الذي سعى إلى اقتفاء أثر هذه «الأسطورة الجوّالة». أربعة قرون لم تُبطل سطوة هذه الرواية الرائدة. يكتب أونامونو في «حياة دون كيخوته وسانتشو» (دار رفوف ـــ دمشق ـــ تعريب صالح علماني) نصاً موازياً لسيرة دون كيخوته بوصفه أمثولة أخلاقية في المقام الأول... هذا المغامر المثالي كان يرغب في تقويم الاعوجاج، وجعل العالم أكثر عدلاً. كانت إسبانيا أواخر القرن التاسع عشر تحتضر إثر هزائم متلاحقة، انتهت إلى حرب أهلية طويلة، وصعود الفاشية. هكذا وجد أونامونو في شخصية دون كيخوته ملاذاً وقناعاً لاستعادة «روح إسبانيا» من همجية الانقلابيين.
اندثار عصر الفروسية الجوّالة المتمثلة في قيم الشجاعة والإيمان والعاطفة هو ما ينقص إسبانيا القلقة في لحظتها المضطربة.
من هنا، اختار صاحب «مرآة الموت» مقاطع من «الكيخوته» في عملية كتابة ومحو وتحوير، ليس لتفسير النص، بل لتأمل الذات الإسبانية التائهة في مهبّ الجحيم الفاشي، وصوغ «دون كيشوت» معاصر بعد تحريره من سجن التخييل الروائي الذي أفسده ثرفانتس من موقع «المؤرخ الرعديد»، وإعادته إلى عتبة واقع مغاير.
«الفارس النبيل ذو الطلعة البهية» وفقاً لتصورات أونامونو، ليس حلماً إلهياً، بل حلم بشري، وبمعنى آخر «مسيح مخلّص». لم يتمكّن ثرفانتس من فهم شخصيّتي دون كيخوته وسانشو بوصفهما بطلين مضادين. على العكس، فهو عاملهما بطريقة سيئة. فحص تضاريس هذه الأسطورة العظيمة وتقليب تربتها يتيحان مفاتيح سريّة لقراءة تاريخ إسبانيا وشخصيتها.
يتوقف صاحب «المغزى التراجيدي للحياة» عند شخصية سانشو، محاولاً اكتشاف أبعاد جديدة لها. فسانشو ليس التابع وحامل أسلحة الفارس فحسب، بل هو البشرية كلها في نظر دون كيخوته، أو «كورال التراجيديا» الذي يعيش في صراع دائم مع شكوك العقل، وهو من «سيوطّد الكيخوتية على أرض البشر إلى الأبد». أما دولثينيا دل توبوسو العشيقة المتخيّلة للفارس الجوّال، فهي الأم الروحية لإسبانيا.
على هذا المنوال، ينسج أونامونو فلسفته الموازية التي تنهض على أنّ الحياة حلم علينا مطاردته حتى لو كان عن طريق الجنون. هكذا يسحب أونامونو البساط من تحت أقدام ثرفانتس لكتابة نصّه المختلف، على اعتبار أن «دون كيخوته» ملك جماعي أو إنجيل فلسفي عابر للأزمنة. هذا التبجيل لصورة الفارس المثالي لا يلغي إعجاباً مماثلاً بشخصية سانشو الدنيوية. التمازج بين الشخصيتين ضرورة لصوغ نموذج مشتهى يمثل العقلانية والجنون على طريقٍ واحد.
لقد وجد أونامونو في الكيخوتة خلاصه الذاتي، وهو يرى بلاده تحتضر، وشعبه يُساق إلى الموت كالخراف. في متن هذه المدوّنة الضخمة، تكمن الإجابة عن أسئلة الراهن، رغم أنها كُتبت في ظلام العصور الوسطى. ويتساءل يائساً «أيّ جنون جماعي يمكن لنا زرعه في أذهان هذه الحشود البائسة؟ وأيّ هذيان؟». ليست كتب الفروسية وحدها من ذهب بعقل ألونسو كيخانو، بل هباء العالم المحيط به بكل خسّته ودونيّته.