أبوظبي | في توزيع الجوائز الكثيرة والمتشعبة للدورة الخامسة من «مهرجان أبوظبي السينمائي»، انحازت لجان التحكيم إلى السرد. جائزة أفضل فيلم روائي طويل كانت من نصيب مرجان ساترابي وفنسان بارونو عن فيلمهما «دجاج بالخوخ» (أو بالبرقوق). تنويعات السرد ـــــ قصصياً وبصرياً ـــــ تخبرنا قصة عازف الكمان ناصر علي (ماتيو أمالريك) في طهران الخمسينيات.
وتجعل الأيّام الثمانية الباقية من حياته مساحةً لتقديم الزمن وتأخيره، والتنقل بين «الأنيماشن» (التحريك)، والفيلم الصامت، والتقطيع المونتاجي الذي يجعل الزمن لعبة تدوير بين الماضي والحاضر والمستقبل. ناصر يتزوج امرأة لا يحبها، تهشّم كمانه، بينما حياته معلّقة بامرأة تُدعى «إيران» تتزوّج بدورها رجلاً لا تحبّه. هنا، المجازات تتكلم، وكل ما في الفيلم يضعنا أمام حياة كاملة غير معنية بأي تفاصيل تاريخية طالما أن الرمز واضح في هذا الخصوص. هذا السياق يحمل بعض ملامح «برسيبوليس»، إذ يلتقي الشريطان على حيوية السرد وجمالياته. وتجدر الإشارة إلى أن فيلم ساترابي الأوّل الذي وثّق من وجهة نظر ذاتيّة لإيران قبل الثورة وبعدها، ما زال يثير الصخب و«الحرائق» في العالم العربي، انتهاءً بتونس قبل أيّام.
أما الجائزة الخاصة للجنة التحكيم (ترأسها المخرج السوري نبيل المالح)، فكانت من نصيب إيراني آخر، هو أصغر فرهادي، صاحب «انفصال نادر وسيمين»، الذي سبق أن توّج في «برلين». هنا لن تكون إيران اليوم في ملامح امرأة، كما في «دجاج بالبرقوق». انفصال نادر عن زوجته سيكون منصة عبور نحو كل ما يحمله المجتمع الإيراني الراهن من تناقضات. يبدأ ذلك منذ اللقطة الأولى التي نرى فيها نادر وسيمين في المحكمة الشرعية. سيمسي نادر وحيداً يرعى والده المصاب بالألزهايمر، ويلجأ إلى خادمة ستنقل الشريط إلى مستوى آخر من الصراع الدرامي. الاتصال هنا سيكون بين ما يجسّده نادر، ابن الطبقة الوسطى، من أفكار ليبرالية، وإصراره على البقاء في طهران، بينما تتطلّع سيمين إلى مغادرتها. وسيصبح الصراع مزدوجاً مع إقدام نادر على طرد الخادمة واتهامها بالسرقة، ما يضعه أمام تهمة التسبب بإجهاض جنينها. وينتقل الفيلم إلى المشاكل والمآزق مع دخول زوج الخادمة على خط الأحداث، وهو عاطل من العمل بينما زوجته تعمل لكن في بيت رجل مطلّق. وهنا يحضر المحرّم، وتوضع كل الشخصيات في اختبار مع قيمها وأخلاقياتها. عربياً، فإنّ جائزة هذا العام انقسمت إلى جائزتين خاصتين بأفضل مخرج ومنتج عربيين، بعدما كانت جائزة واحدة تحت مسمى «أفضل فيلم عربي». نال جائزة الإنتاج زياد حمزة ورضا الباهي عن «دايما براندو»، الذي كان يُفترض أن يشارك فيه مارلون براندو، الذي توفي قبل أن يشرع الباهي في تصويره. هكذا، احتاج الباهي إلى سبع سنوات لتجاوز محنة موت براندو، ثم خرج بهذا الفيلم الذي يسرد وقائع ما حصل معه، بشيء من التباكي، مقدماً قصة شاب (أنيس الرعاش) يشبه براندو، يعيش في قرية تونسية يجري فيها تصوير فيلم هوليوودي. نكون هنا حيال فيلم مليء بالافتعال والكليشيهات التي تحمل منطق إدانة المقاربة الاستشراقية للعرب والمسلمين، فيما تمضي أحداث الفيلم ـــــ للمفارقة ـــــ في سياق يؤكد صوابية تلك المقاربة الاستشراقية.
أما جائزة أفضل مخرج عربي، فجاءت من نصيب المغربي إسماعيل فروخي عن «الرجال الأحرار»، الذي فتح فيلمه ملفاً جديداً يخصّ عرب فرنسا إبان الاحتلال النازي. إنّه الدور الذي أدّاه جامع باريس الكبير في حماية اليهود من النازيين، عبر استصدار شهادات ولادة إسلامية لهؤلاء. نرى ذلك عبر قصة المغني الجزائري اليهودي الراحل سليم هلالي (1920 ـــــ 2005) الذي جسّد دوره محمود شلبي، وعلاقته بيونس (طاهر رحيم) الذي سيتنقل من تجارة السوق السوداء إلى العمل مخبراً، وصولاً إلى انخراطه في المقاومة الفرنسية، حيث سيشارك هذا العربي في النضال لإسقاط الفاشية والاحتلال.
يهود الجزائر سيحضرون في وثائقي الجزائرية صافيناز بوصبايا «إل غوستو» الجميل، الذي نالت عليه جائزة أفضل مخرج عربي في مسابقة الوثائقي. وقد قدمت وثيقة جمالية لموسيقى «الشعبي» الجزائرية وروادها وعازفيها ومغنيها من عرب وبربر ويهود جزائريين، ترك بعضهم الجزائر بعد الاستقلال. الجانب الديني في هذه الموسيقى سيكون مزيجاً من الإسلامي واليهودي، فيما تاريخ الجزائر يمضي برفقة الموسيقى وصولاً إلى إعادة اجتماع من بقي من الموسيقيين ليكوّنوا فرقة «إل غوستو».
في مسابقة «آفاق جديدة» التي ترأس لجنة تحكيمها الإيراني بهمان قبادي، ذهبت جائزة أفضل فيلم للبرازيلي «القصص موجودة حين نتذكرها» لجوليا مراد، الذي حوى جماليات لا ترقى إلى مستوى الآفاق الجديدة التي قدّمها مثلاً فيلم المغربي هشام العسري «النهاية»، الذي خرج خالي الوفاض من المسابقة.
قدّم العسري مقترحاً جمالياً لافتاً، لم نقع عليه مثلاً في «أسماء» للمصري عمرو سلامة، الذي نال جائزة أفضل مخرج عربي في «آفاق جديدة». إلا أنّ موضوع «أسماء» أعجب لجنة التحكيم لكونه يحكي قصة حقيقية لمصابة بالإيدز (هند صبري). وينتهي الشريط بعكس ما حدث في الواقع. أسماء لم تظهر وجهها على التلفزيون، ولم تنل أي تبرعات، وماتت لأنها لم تتمكن من إجراء عملية المرارة، كما سنقرأ في نهاية الفيلم.