«صار بدنا عصفورية!» كم مرّة يردّد اللبنانيون هذه العبارة في اليوم؟ يكفي أن نتأمّل في كونشرتو أبواق السيارات، لندرك أنّنا شعب على حافة الجنون. في شريطها الوثائقي «كيف حالِك؟»، تعيد كارول منصور فتح باب النقاش حول الصحة النفسيّة في لبنان، بمبادرة من منظمة «أطباء بلا حدود». على مدى 36 دقيقة، تدخل المخرجة والمنتجة اللبنانيّة إلى منطقة تعدّ من المحرّمات، في مجتمع لم يتخلّص من ثقل التقاليد، رغم مظاهر الانفتاح الخادعة. تدعونا صاحبة Maid In Lebanon إلى لقاءات فريدة مع أهل «العصفوريّة». برغبتها المعهودة في «النظر من الداخل»، تمنح المساحة الأكبر من شريطها للمرضى.
في لقطات مقرّبة، تتركهم يروون قصصهم، بعيداً عن أي نظرة نمطيّة أو فوقيّة. هنا، سيّدة سبعينية شقراء تفتتح الشريط بأغنية Love Story الشهيرة. منذ اللقطة الأولى للفيلم، تضعنا المخرجة وجهاً لوجه مع حالة إنسانيّة تصعُب مقاربتها بهزل، رغم طرافتها الواضحة. سنسمع قصّة شابّة تحكي نزعاتها الانتحاريّة من دون أن تظهر وجهها، خوفاً من عيون الأهل والأقارب. من جهتها تروي المنتجة جنان ملاط من دون عقد، تجربتها مع «وجع الروح» الذي يحتاج أحياناً إلى عقاقير.
تتوالى الوجوه أمامنا، بين مستشفيات الأمراض العقليّة، والمخيّمات الفلسطينية، وبيوت العائلات التي اختارت علاج مرضاها بنفسها. وبين هذا وذاك، يسلّط الشريط الضوء على تقهقر نوعية العلاج، مقارنةً بالدور الرائد الذي أداه لبنان في المجال مطلع القرن التاسع عشر. «مستشفى الأمراض العصبية»، الذي أسسه تيوفيلوس فالدمايير في قرية العصفوريّة، كان أوّل مستشفى في الشرق يعالج المرضى في أماكن مفتوحة، عوضاً عن ربطهم بسلاسل حديدية كما كان سائداً. أمّا في مطلع الألفية، فلا يزيد عدد المستشفيات المتخصصة في الصحة العقليّة على ثلاثة... كما أنّ عدد الأطباء المحدود، والكلفة العالية للجلسات (قد تبلغ عشرة آلاف دولار سنوياً)، يجعلان العلاج النفسي ترفاً بالنسبة إلى الكثير من اللبنانيين. تخبرنا منصور أنّ 49 في المئة من السكان في لبنان واجهوا صدمات نفسية متعلقة بالحروب. كما أنّ أكثر من 70 في المئة ممن يعانون الاكتئاب، لا يتلقون علاجاً مناسباً. تحيل المعالجة النفسيّة علا عطايا هذا التراجع على «الوصمة الاجتماعية أو الستيغما»، فيما يذكّر الطبيب النفسي ربيع الشامي بأنّ الاكتئاب واحد من الأمراض العشرة الأكثر تسبباً بالوفيات في العالم!
بعيداً عن نزعة تلفزيونيّة في التعاطي مع المرضى النفسيين كحالات خاصة، ومخلوقات خطرة غالباً، يذكّرنا شريط «كيف حالك؟» بأنّ الألم النفسي حالة عامّة. تنجح منصور في تقديم قراءة هادئة ومتزنة وموثّقة حول موضوع شائك. من دون مؤثرات خاصة، تذكّرنا بأنّ جراحاً كثيرة في ذاكرتنا ولاوعينا تحتاج إلى بلسمة.